قبل بضع سنوات لم يكن هناك من يتحدث عن الهوية الوطنيةلكننا اليوم متحمسون للتعبير عن القلق بشأنها ، فياترى ما الذي تغير في حياتنا لتصبح الهوية الوطنية موضع جدل وإشكال !؟ تتشكل أزمة الهوية الوطنية لدى كثير من البلدان كأحد مظاهر الطفرات الحضارية التي تنتقل بالمجتمع من واقع لآخر مختلف في أبجدياته الثقافية والفكرية ، الأمر الذي تتولّد عنه فجوة فاصلة بين جيل ما والجيل السابق له الذي يحمل خبرة وتجارب أجيال متوغلة في عمق الحضارة الإنسانية ، مما يجعل الجيل الجديد بوضع يفتقر إلى كثير من صفاته الحضارية التي تترجمها القيم والعادات والسلوكيات المجتمعية. ومن هذا المنطلق وجدنا أن الأخ الرئيس/ علي عبدالله صالح، عندما جمع مختلف القوى الوطنية عام 1982م تحت مظلة المؤتمر الشعبي العام الأول ، وبدأت لجنة التصور للعمل السياسي تطرح موضوع التعددية الحزبية قال : «لا ينبغي القفز فوق المراحل» ! إذ إنه كان مدركاً بأن أي تجاوز للواقع اليمني سيكون بمثابة انتحار ، لذلك كانت التعددية السياسية في كنف المؤتمر هي الطريق الآمن للانتقال إلى التعددية الحزبية. إلا أن سرعة وتيرة نمو التجربة الديمقراطية بعد الوحدة اليمنية، واتساع مساحة ممارساتها ، بجانب الانفتاح الهائل الذي شهدته اليمن في غضون السنوات الماضية من عمر الديمقراطية التعددية أسهم بشكل أو بآخر في خلق اشكالية في مدى قدرة الساحة الوطنية على استيعاب أطر كل المتغيرات القائمة ، فالقوى الوطنية التي نظمت نفسها تحت مسميات سياسية حزبية مختلفة لم يكن بعضها مدركاً لحقيقة الشراكة السياسية ضمن الإطار الوطني الموحد ، فصارت تتعاطى مع الوطن على أنه مسئولية خاصة بالحزب الذي يتولى الحكم ! ومن هنا تبلورت ثقافة الولاء الحزبي في صفوف قواعدها التنظيمية كجزء من رهانات المنافسة الانتخابية ، وآليات معارضة الطرف الحاكم. لقد تجسد هذا المنطق بأوضح صورة مؤخراً حين قامت تلك القوى السياسية بتكريس نشاطها السياسي داخل خارطة جغرافية محددة دون سواها من بقية ارجاء الوطن دونما اكتراث لما قد ينجم عن ذلك من عصبية جغرافية مناطقية تهدد سيادة واستقرار الوطن الواحد .. فجاء الحراك السياسي لها مترجماً لثقافتها السياسية المحدودة الأفق ، والقاصرة عن فهم فلسفة الشراكة في الخيار الديمقراطي! ولم يكن ذلك وحده سبب الوقوف أمام إشكالية الهوية الوطنية بل إن الانتقال السريع من واقع تاريخي مكبل بتعقيدات صيغ الحكم السابقة الكاتمة الأنفاس ، والمقيدة لحراك الحياة اليومية بدرجة عالية من القلق والحذر ، إلى واقع مفتوح بحرياته المختلفة ، وبخيارات الحركة فيه ، بين أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، ومنابر إعلامية متعددة المشارب والتوجهات ، وتحالفات ، ومجلس برلماني ، وغير ذلك من الخيارات المكفولة دستورياً خلقت بمجموعها اندفاعاً متحمساً لخوض التجربة ، ولكن تنقصه أحياناً الخبرة ، والمعرفة بحدود وغايات هذه الفرص ، وجدوى تبنيها من قبل النظام السياسي للدولة ! لعل هذا الاندفاع غير المدروس جيداً ، داخل مجتمع مثقل بمواريث العهود البالية ، من نسب أمية وجهل وفقر مرتفعة أوجد نوعاً من الفرار العفوي من ذلك الواقع ، ومن عقد الكبت القديم المختلج في الذاكرة إلى ممارسات الحياة الجديدة ، ولكل ما رادفها في التجارب الديمقراطية للغير ، دونما الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات الثقافية والعقائدية والتنموية التي قد لا تتوافق مع ماهو كائن في اليمن وظروفها المعروفة ، فحدث جفاء عن تلك الخصوصيات المفعمة بالقيم الوطنية النبيلة.