الزمان ليس واحداً والمكان أيضاً، فإذا كان المكان الذي نراه محدوداً بحدقات أعيننا وقدرتنا على الإبصار فإن المكان الكوني يتجاوز ذلك بمراحل كبيرة، فالرائي المبصر لا يرى من العالم سوى أقل القليل مما يمنحه الإبصار الاعتيادي، والدليل أن الهواء ليس فراغاً كما نتوهم، بل إنه مترع بملايين الشواهد والكائنات الحية التي نرى بعضها عبر عدسات الميكروسكوب ولا نرى الأغلب لأننا لا نتوفر على ما يتجاوز قدرات المجهر الحالي، وعند الكائنات الحية المختلفة نصيب متباين في الإبصار أو الرائحة، فالكلب يتمتع بحاسة الشم القوية، والصقر يتمتع بحاسة إبصار أكبر، وبعض الحشرات تتمتع بقرون استشعار متعددة الوظائف، والخفاش لا يرى في الضوء بل في العتمة، وللذبابة عيون كثيرة تسمح لها بمشاهدة بانورامية أشمل مما لدى الإنسان، واليعاسيب تنام وتعيش في الهواء، طائرة طوال أيام وساعات عمرها القصير، فهي لا تعرف السكون المطلق أبداً، ولا تقع على الأرض إلا ميتة!! وهكذا. أدرك التاويون “نسبة إلى فلسفة التاو” الصينيون ماهية الفراغ واعتماره بل امتلاءه، فبنوا رؤيتهم الفكرية والفنية على اعتبار أن ما نراه فراغاً ليس إلا امتلاءً، وبالتالي فإن قدراتنا على الإدراك والإبصار محدودة قياساً بمعطيات الطبيعة، وأن صلتنا بالمكان والزمان صلة أقل بكثير من التملك المعرفي والجمالي والادراكي لماهية المكان والزمان، وقد عبروا عن ذلك في نصوصهم الشعرية ورسوماتهم التي ركزوا فيها على الماء والهواء كمعادلين خطيرين لميزان الوجود المكاني، فيما رأوا أن الزمان يتماهى مع هذه الفكرة. كما عبر المتصوف المسلم محمد بن عبدالجبار النفري عن ذات الفكرة المتعلقة بالزمان والمكان قائلاً بلسان الحق: القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة وأنا القريب البعيد بلا مسافة. الإشارة هنا ذات مغزى عميق فالحق سبحانه وتعالى يقول لنا إننا لا نرى من المكان إلا القليل الذي يتناسب مع قدراتنا، ولا ندرك من الزمان إلا القليل الذي يتناسب مع حيواتنا القصيرة، ولهذا السبب بالذات تتفاوت أعمار الكائنات الحية التي تتعايش معنا في الكرة الأرضية، فمنها ما تستغرق دورة حياتها بضع ساعات، وأخرى بضعة ايام، وثالثة سنين محدودة، ورابعة سنين طويلة كحال السلحفاة التي تعيش خمسة قرون، وبالتالي فإن الدلالة هنا تكمن في قياساتنا للمكان باعتباره أمراً تواضعنا عليه نسبة إلى أعمارنا ومفاهيمنا للزمان والمكان