لا أرى شيئاً في الأثير السابح أمامي .. إنه فراغ فحسب . الأثير السابح أمامي فراغ ولكنه عامر بملايين الكائنات الحية، غير أننا لا نستطيع رؤيتها . اذا استعرت عين تقنية يمكنك مشاهدة تلك الكائنات .. عين المجهر كفيلة بأن تضعك في لجّة العوالم المليارية للكائنات الدقيقة السابحة في أثير الفراغ. عين المجهر كعين الكاميرا تضعك في معادل وجودي لا تقوى على إدراك كنهه بعدسات إبصارك المحدودة. عين الكاميرا كعين المجهر ترى وتتفاعل ولكن بنواميس مُغايرة لعينك الآدمية . من أراد أن يرى ماوراء الآكام والهضاب ويستقرىء السبب والأسباب، فلا مفر له من أن يقع في ظلمة «العماء» حتى يرى نفسه أولاً ليرى مابعد ذاته المحدودة. الإنسان مركز الفعل والتفاعل، والتقنية تابعة له، لكنها تعطيه فيوضاً لايقدر عليها، فسبحان من أحال التابع متبوعاً، والعارض العابر جوهراً . أرى ما أرى بوصفه بعضاً من كل، ولا أرى بعين البرهان إلا النزر اليسير من مكنونات الرؤية. اغمض عينيك ترى كل شيء بوضوح. لايرى الإنسان في صحوه مايراه في منامه .. لا يرى في منامه مايراه في موتته الثانية، باعتبار أن المنام موت أول. قال تعالى في سورة الجاثية :« ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل». ماوراء الرؤية أهم من المرئي، وما يتجاوز الظاهر أعظم وأخفى. في الصحراء تبدو الرؤية مُتضببة؛ لأن الصحراء عصيّة على المكان والزمان بوصفهما مرئيات واضحات وأزمنة محسوبات . هذا هو حال البحر أيضاً، فالزمان والمكان هنا حالة من معانقة الميتافيزيقا؛ حيث لامكان ولا زمان . قال النفري : القُرب الذي تعرفه مسافة، والبُعد الذي تعرفه مسافة .. وأنا القريب البعيد بلامسافة . وقال البسطامي : أنا شيخ الوقت . وقال ماوتسي تونغ : التناقض جوهر الحقائق الوجودية؛ لأنه نسبي ومطلق .. له طرفان ينحلان ليفسحا المجال لتناقضات جديدة . التناقض ديالكتيك الوجود المركوز في تناوب الحياة والموت .. الرؤية والعتمة .. الغائب والحاضر .