مع التوسع الهائل جداً في مدن عالم اليوم واعتماد مواطنيها كلياً في حركتهم اليومية على وسائل النقل الحديثة والسريعة فقد تنامت أعداد ضحايا الحوادث المرورية في كل دولة حتى أصبحت تنافس الحروب والكوارث الطبيعية وبلادنا ليست استثناء. وبالمنظور التاريخي للعمران الإنساني، فقد تباهت الأمم منذ نشأة الحضارات ليس فقط بما تمتعت وتمايزت به عواصمها ومدنها من ضخامة وروعة قصورها وقلاعها وتحصيناتها وأسواقها وحدائقها وملاعبها بل أيضاً - وهذا هو بيت القصيد - بروعة تخطيطها وبسعة وجمال شوارعها ومداخلها ومخارجها أي بكفاءة أنظمة الحركة بين أحيائها ومرافقها. إن هذا المتطلب الحضاري الأساسي لجميع العواصم والمدن القديمة قد أصبح أكثر أهمية وحيوية منذ قيام الثورة الصناعية في أوروبا وانتشارها في دول العالم وما أدت إليه من التنامي الهائل في سكان العواصم والمدن القديمة ونشوء مدن كبرى جديدة ذات كثافات سكانية تفوق الواحدة منها مجموع سكان عدة دول قائمة، وما تزامن مع ذلك من التطورات المتسارعة والمتلاحقة في وسائل المواصلات والنقل. لقد أصبحت أنظمة الحركة بالنسبة للمدن كالشرايين لجسم الإنسان، وأصبحت مسألة وجود نظام آمن وسليم للحركة في المدن واحدة من أولى أولويات واجبات ومهام الدولة الحديثة، لهذا سنت القوانين الصارمة لتنظيم حركة المرور وأنشأت لها الإدارات المسئولة وحشدت لها في كل دولة جيوشاً من الجنود والضباط المدربين وأقيمت لها المحاكم الخاصة وأصبح عالم اليوم حين يقارن بين مايراها دولاً أكثر أو أقل تقدماً، ينطلق من تقييمه لمدى كفاءة وسلامة نظام المرور لهذه الدولة أو تلك ومدى سلاسة الحركة في مدنها كأحد المعايير الأساسية التي يقاس بها مستوى تقدم ورقي أو ضعف وتخلف تلك الدولة. بل إن مفهوم المواطنة الصالحة في دول العالم المتقدمة أصبح يعبر عنه بعدد من المظاهر السلوكية من أهمها مدى احترام المواطنين لأنظمة وقواعد المرور. ومن شدة تأصيل وتعميق هذه القضية في نفوس أبناء المجتمعات المتقدمة، فلم يعد هذا الاحترام مجرد أمر تفرضه القوانين الصارمة والرقابة الشديدة وما يتعرض له المخالفون من غرامات وعقوبات، بل تحول إلى خلق متأصل عند عموم أفراد المجتمع حتى إن المواطن إذا تجاوز إشارة المرور (نتيجة استعجال أو عدم انتباه أو غير ذلك) يعود إلى بيته مثقل الضمير بمشاعر حزن وأسف لأنه ارتكب تلك المخالفة التي هي في نظره جريمة حتى وإن لم تسجل عليه مخالفة لأي سبب من الأسباب، ولا يرتاح ضميره إلا بتوبة وعزم ذاتي على عدم تكرار المخالفة، بل إن كثيراً منهم لا ترتاح ضمائرهم حتى يقوموا بإبلاغ الجهات المختصة بما حدث منهم معلنين استعدادهم لتحمل تبعات تلك المخالفة. (هذا الكلام ليس تأليفاً من خيالي بل إنه مبني على معلومات صحيحة وعلى معرفة شخصية أثناء دراستي وزياراتي الرسمية لبعض تلك البلدان). وللمجتمعات المتقدمة في عالم اليوم نظرة احترام وتقدير لعموم موظفي الدولة ذوي العلاقة المباشرة بالخدمات العامة للمجتمع ومنهم أفراد الأمن والجيش، لكن رجل المرور له موقع خاص لدى عموم أفراد هذه المجتمعات صغاراً وكباراً بما يكنون له من التقدير الكبير ومن مشاعر الود والتكريم. وفي المقابل وإذا نظرنا إلى واقعنا فإن حقائق مؤلمة ومؤسفة ستتبدى أمامنا تخبرنا أننا - كمجتمع أولاً وكبنية تحتية ثانياً - لا نزال للأسف بعيدين جداً عن مثل معطيات هذا الواقع الحضاري الرفيع. وأقول للأسف لأننا كمواطنين في يمن الإيمان والحكمة كم نتفاخر بحضارة أجدادنا ومآثرهم، وكم نتباهى بما نالوه من الذكر والثناء الحسن، وكم نتغنى كمثقفين بحب الجمال والذوق، وكم يدبج مسؤولونا الخطب في كل مناسبة لشرح ما حققناه من منجزات هائلة في شتى المجالات، وكم نتشاكى ونتباكى كسياسيين ومعارضين على ضعف وتخلف بلادنا مطالبين بدولة النظام والقانون. لكننا جميعاً - والنادر لا حكم له - لا نزال بعيدين جداً كقناعات وسلوك عما ينبغي لمجتمع متحضر من الالتزام الجاد بما نزعمه أو نطالب به من مقومات الدولة الحديثة ومنها أنظمة وقواعد المرور والإشارات، وعما يقتضيه ذلك من احترام وتقدير رجل المرور وإنصافه مادياً ومعنوياً. أي أن ما نرجوه ونتمناه من النهوض الحضاري والتقدم والتنمية الشاملة لايمكن تصور تحققه قبل أو بدون الوصول إلى المستوى المنشود من الوعي الفكري والوجداني الجماعي بقواعد المرور وأنظمته.. وعي يتجسد في شواهد عملية من الالتزام السلوكي في الواقع. إنني واثق أن مجتمعنا اليمني بما يمتلكه من خصائص واستعدادات وتطلعات أصيلة سوف يرتقي بإذن الله إلى هذا المستوى من الوعي التمدني الذوقي، بل إن هناك مؤشرات حقيقية لهذا الارتقاء قد أصبحت أكثر حضوراً ووضوحاً في الخطاب الإعلامي الممنهج وفي المضامين التعليمية المدرسية، بل وفي ما تبذله وزارة الداخلية وإدارات المرور من جهود مشهودة أثمرت تحسينات وتطويرات ملحوظة في المدن وفي عموم الطرق الرابطة بينها رغم قلة الإمكانيات ومحدودية المخصصات والحوافز. فالشكر والتقدير لصناع هذا التحسين الذي أصبح استحقاقاً ثابتاً لهم وإلزامياً علينا كعربون عن استعدادنا للارتقاء بعلاقتنا الوطنية مع جنود وضباط المرور وما يتصل بمهامهم من أنظمة وقواعد وتوجيهات وإشارات. ختاماً أتوجه إلى قادة الأحزاب السياسية وكوادرها: هذه قضية جامعة، ألا يجدر بكم جميعاً أن تعتبروها محطة لقاء وتعاون وتضامن بينكم؟! صدقوني ستجدون في مثل هذه المبادرة خيراً كثيراً وساحة ترتاحون فيها من وعثاء التباعد والمكايدات.