كثيراً ماتطرق رجال العرفان إلى الهاتف والنداء و الصوت، وأكثر من قال بهذا النوع من الاستغراق في الغائب ابن عربي الذي كان يحيل الكتابة إلى ما يتجاوز ذات المؤلف ، فلقد دأب في مؤلفاته على استهلال مثل هذا : “ في سنة كذا و كذا جاءني هاتف و طلب مني أن أسطر هذا الكتاب” أو “ في يوم كذا من سنة كذا سمعت نداء يميد بي إلى أخذ القلم و الكتابة “ الخ . يقول ابن عربي إن في العالم لغة واحدة فقط ، ويجير كلامه على العربية معتبراً لغة القرآن بمثابة اللغة الجامعة الشاملة والحاضنة لكل اللغات، والتفسير يكمن في قراءة مراتب الحروف من حيث الرسم والصوت والعلاقة بالكلام، والعلاقة بالتلقي ، والعلاقة بموسيقى الوجود أو ميزان الوجود المحكوم بالنواميس الإلهية والمشيئة الربانية، وبالتالي فإن هذا الميزان يمثل الجبر في ثنائية الجبر والخيار، فيما يستطيع الإنسان أن يذهب في خياره إلى حدود التعدي على النواميس فيخسر نفسه لا محالة، فالاتساق مع المشيئة الربانية وميزان الكون مدعاة للنجاة، والاعتداء عليها مدعاة للهلاك . اللغة تعتبر هنا الترميز الأقصى لتلك الماهيات والموازين الكلية، ولذلك فإنها تستبطن كامل شروط الوجود المرئي واللامرئي، والعربية تلتزم هذا النهج من خلال سياقها الصرفي وميزانها النحوي، فهي لا تُكتب كما تُقرأ كحال أغلب اللغات، بل إن رسمها المكتوب يعبر عن بعض من كُل. ألا تلاحظ أن الصوتيات مضمرة في العربية، فليس من الضروري أن نكتب الحركات التسعة المعروفة “ فتحة وضمة وكسرة وفتحتين وضمتين وكسرتين ، وسكون ومدّ وشد “ وبالتالي تبدو لغة العرب موصولة بالتعمية والإضمار ، وهذه التعمية codification ليست مثلبة بل ميزة كبرى تُرينا كيف أن المرئي في العربية يتوازى مع اللامرئي، وكيف أن مقام اللامرئي أسمى وأجل قدراً من المرئي المكتوب، وكيف أنها لغة تتجاوز البرهان الرياضي الشكلاني إلى آفاق موصولة بالذائقة والغيب، فالغيب “ المجهول “ ليس مصدراً للغة فحسب بل أساس للمعرفة، وعند الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي أن متاخمة المجهول للمعلوم سبب لانجلاء المعلوم ، وأن المعرفة الحقيقية ليست برهانية رياضية على أهمية ذلك ، بل انبجاسات وتفتقات وأنوار يقذفها الله في القلوب