اللغة تميمة الشعر، وهي إلى ذلك بمثابة الترميز الأقصى للماهيات والموازين الكونية، ولذلك تستبطن كامل شروط الوجود المرئي واللامرئي، والعربية تلتزم هذا النهج من خلال سياقها الصرفي وميزانها النحوي، فهي لاتُكتب كما تُقرأ كحال أغلب اللغات، بل إن رسمها المكتوب يعبر عن بعض من كُل. ألا تلاحظ أن الصوتيات مضمرة في العربية ؟، فليس من الضروري أن نكتب الحركات التسعة المعروفة «فتحة وضمة وكسرة وفتحتين وضمتين وكسرتين، وسكوناً ومدّاً وشداً»، وبالتالي تبدو لغة العرب موصولة بالتعْمِية والإضمار، وهذه التعمية codification ليست مثلبة بل ميزة كبرى ترينا كيف أن المرئي في العربية يتوازى مع اللامرئي، وكيف أن مقام اللامرئي أسمى وأجل قدراً من المرئي المكتوب، وكيف أنها لغة تتجاوز البرهان الرياضي الشكلاني إلى آفاق موصولة بالذائقة والغيب، فالغيب «المجهول» ليس مصدراً للغة فحسب، بل أساس للمعرفة، وعند الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي إن متاخمة المجهول للمعلوم سبب لانجلاء المعلوم، وإن المعرفة الحقيقية ليست برهانية رياضية على أهمية ذلك، بل انبجاسات وتفتُّقات وأنوار يقذفها الله في القلوب. ينقلنا هذا الاستنتاج إلى مصدر الكون الذي كان «عماء في عماء»، يوم أن استوى الله على السماوات وهي دخان، غير أن هذا العماء أنتج أراضي وسماوات وأكواناً وتجليات مما لا يتسع له الحديث. العربية بهذا المعنى استطراد على «العماء» من حيث كونها مفارقة لشمول التوازن الصوتي البصري شكلياً بالرغم من جوهرية هذا التوازن!!. نكتب بعضاً من الكلام للتدليل على كل الكلام، لأننا نكتب الكلمة دون صوتيات، لكننا نقرأ كل الكلام فنغيب في «التعمية» الإبداعية الموصولة بالذاكرة والذائقة. لكن هذا لا يكفي، فالكلمة تعيش انزياحاتها الدلالية المطلقة، والإشارة تقبع وراء العبارة، والاتصال غير اللفظي سمة حاسمة في ميزان الجمال والجلال . الاتصال غير اللفظي إشارة لتعدد اللغات الدالة، وتعبير عن فضاءات الكلام المتنوعة، والحاصل أن كل إشارة وعبارة وإيماءة تعبير يوصّل إلى الكلام سواء جاء الكلام بوصفه صوتاً أو إشارة أو إيماء أو ملامسة.