حيثما يذهب المرء في كل أرجاء الوطن العربي لا نستثني من ذلك بلادنا يجد أن هذا الواقع الذي تعيشه هذه الأمة، ليس هو الواقع الذي يريده الإسلام أو يقبله، فالإسلام يدعو إلى الصدق، بينما هذا واقع تفوح منه روائح الكذب في كل أرجائه !!. وليس من شك في أن الكذب قد صار سمة من سمات حضارة العصر، إلاَّ أننا بصورة خاصة قد أعطينا الكذب مساحة أكبر وحرية أوسع، وأطلقناه على كل معاملاتنا وحكّمناه في كل أمورنا، فصار هو السيد المطلق الذي يتحكم فيما يقوله السياسيون والحزبيون والإعلاميون ويتحكم فيما يقوله البائعون والمشترون، وفيما يقوله أصحاب التجارة وأرباب الحرف والصناعات، وأسوأ من هذا كله أن يتحدث بالكذب الآباء والأمهات في تعاملهم مع أبنائهم وجيرانهم، ويتحدث به التربويون بنفس الطريقة التي يتحدث به الباعة المتجولون وكل رواد الأسواق بما فيهم المتسولون الذين يقسمون الأيمان المغلظة أنهم لا يملكون شرد نقير، بينما أثبت الواقع في كثير من الأحيان أنهم على حال غير ذلك الحال الذي يعرضونه على الناس، خصوصاً أولئك المتسولون الذين يبالغون في حلف الأيمان والباعة الذين يحلفون بالطلاق بأنهم يبيعون سلعتهم بخسارة أو بربح ضئيل، وخصوصاً أولئك الذين ينقلون الأخبار ويروجون الشائعات بقصد إيغار الصدور وتعبئة النفوس وتثبيط الهمم وزعزعة الاستقرار، يقابلهم أولئك الذين يغالون في المديح وهم يعلمون أو لا يعلمون أن المديح ليس سوى كذب مستتر خصوصاً عندما يزيد عن حدّه ويخرج عن اعتداله. يقول السباعي «رحمه الله» :«في المآزق ينكشف لؤم الطباع، وفي الفتن تنكشف أصالة الرأي، وفي الحُكم ينكشف زيف الأخلاق، وفي المال تنكشف دعاوى الورع، وفي الجاه ينكشف كرم الأصل، وفي الشدة ينكشف صدق الأخوة». ونقول لأولئك الذين يحلفون الأيمان الكاذبة في كل مواقع المعاملة: لو كنتم صادقين ما كانت بكم حاجة إلى حلف اليمين: فلا تحلف فإنك غير برّ وأكذب ما تكون إذا حلفتا يقول ابن شمس الخلافة: «علامة الكذاب إتيانه باليمين لغير مستحِلف». وبسبب غياب الصدق، وهيمنة الكذب على شئون الحياة بدا واقع الناس كأنهم عادوا القهقرى إلى عصور مظلمة يرفضها الإسلام بكل ما يمثله من قيم الصدق، فقد جاء الإسلام بقيم أخلاقية ترفض التعامل بالكذب، ومع ذلك فإن الناس يمارسون الكذب كما لو كان قيمة أخلاقية إسلامية يأثم الناس إذا لم يتعاملوا بها. ومادام المجتمع على هذا الحال، فلا عجب أن تسيطر الكآبة والبؤس والشقاء على حياة الناس، نجد الناس يتحدثون عن مشاعر الضيق التي تنتابهم وتحيط بمشاعرهم، هم يتحدثون علناً عن ذلك، يقول الواحد منهم لأخيه أو صديقه أو من يتعرف عليه: عندي كما عندك من الشعور بالضيق والكرب، وهمي لا يقل فداحة عن همك، عندي نفس إحساسك، ويستمر الكل في شكوى، كأن الناس في دنياهم قد خلقهم الله من أجل أن يتبادلوا التبرم والسخط من الحياة، كأنهم خلقوا من أجل أن يذرفوا الدمع، ويتحسروا على أنفسهم، دون أن يجهدوا أنفسهم في معرفة أسباب ما يحيط بهم من شقاء، فلو أنهم تأملوا قليلاً في سلوكياتهم وتعاملاتهم لوجدوا «الكذب» على رأس قائمة أسباب شقائهم وبؤسهم.. وحينذاك فقط يستطيعون أن يجدوا الحلول لمصاعب الحياة. يقول أحد الحكماء: الكذاب والميت سواء؛ لأن فضيلة الحي هي النطق، فإذا لم يوثق بكلام الكذاب فقد بطلت حياته !!. دخل رجل على طبيب في عيادته، فاعتقد الطبيب أن الزائر مريض يطلب المعاينة، ولكي يوحي إليه بمقدار أجرته، سارع إلى الهاتف وأدار السماعة، ثم راح يقول لمحدثه المزعوم: «نعم أنا الدكتور «باهظ» وإنني مشغول جداً، وقيمة المعاينة كما أخبرتك «ألفا ريال» ثم وضع السماعة والتفت إلى الزائر متسائلاً: ماذا أستطيع أن أصنع لك يا سيدي ؟!. فأجابه الزائر: لا شيء إنني موظف مصلحة الهاتف لإصلاح هاتفك الذي سمعتك تتحدث منه!!. ورغم أن الكذب كله شر وليس هناك عاقل يقبل النظر باحترام إلى من يمارسونه ويتعاملون به إلا في حالة المرأة عندما تنقص عمرها إلى النصف، وترفع ثمن فساتينها إلى الضعف.. فتلك مسألة لا تخلو من طرافة يمكن قبولها لأنها تدخل ضمن طبيعة الأشياء.