من فيض الحديث عن الفساد،وشدة التكتم على المفسدين في آن واحد، قد نجد أنفسنا يوماً غارقين بسرد أهواله وعجائبه للصغار كما نسرد قصص «أم الصبيان»، وربما لو سألونا عن شكله أجبناهم: إن قدم الفاسد مثل «ظلف الحمار» ! عامان وأكثر ونحن في سجال حول مكافحة الفساد، بين تشريعات، ومؤتمرات، وندوات، وحلقات نقاش، وخطابات، وبيانات.. كلها تلعن الفساد والمفسدين حتى تحولت قضية مكافحة الفساد إلى شماعة سهلة المنال، نعلق عليها كل أخطائنا، وإخفاقاتنا، وذنوبنا، وحتى نوايانا السوداء التي نضمرها في نفوسنا.. فالإفراط في الحديث دونما عمل إجرائي أوجد فراغاً تسابقت لشغله مختلف القوى الفاسدة. فهناك من تمرد على القانون والدستور بدعوى أنه يحتج ضد الفساد.. وهناك من قطعوا الطرق واختطفوا رهائن، وعطلوا مصالح اقتصادية نفطية باسم معارضة الفساد.. وهناك من أحرقوا وخربوا مرافق حكومية خدمية، ومتاجر مواطنين، ونهبوا ممتلكات عامة وخاصة تحت شعار «الثورة» على الفساد.. وهناك من رفعوا دعاوى وألوية التشطير تحت مسوغ «التحرر» من الفساد.. وهناك من مد الجسور من ألد اعداء اليمن والمتربصين بها سوءاً مبرراً فعلته بشعارات مناهضة للفساد.. بل هناك من أباح النهب والسرقة من المال العام لأنه يتهم الحكومة بالفساد !! كثيرون هم الذين يلقون بمسئولية كل ما يحدث على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ليس لأنهم لا يعلمون بالوقت الذي يستغرقه وقوف هيئة جديدة بهذا الحجم على قدميها، بل على العكس لأنهم يعلمون تلك الحقيقة، ويدركون ما يمكن ان تفعله لو تسنى لها الوقوف بانتصاب.. غير ان الحال مرهون بغايات أخرى : أولها خلق صورة مهزوزة ومشبوهة للهيئة استباقاً لما يمكن ان يطولهم منها.. وثانياً خلط وظائف الهيئة والمعنى الحقيقي للفساد، لذلك وجدنا بعض أحزاب المعارضة تحرص على رفع شعارات تعطي للفساد معنى سياسياً، وتؤطر بعض القضايا السياسية بمفهوم الفساد كما هو الحال بشعاراتها «الانفصالي هو من ينهب الأراضي» أو «ينهب الثروات النفطية».. إلخ.. وهو ربط يراد به التعجيز من خلال خرق الثوابت الوطنية بقصد إشغال السلطة بها على حساب حربها ضد الفساد ! لكن يبدو لي أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وقعت ضحية التعبئة الإعلامية التي كان يفترض ان تقوم بتهيئة المناخ الثقافي للبيئة والإعداد النفسي للمجتمع ليتحقق التفاعل الإيجابي ! فوسائل الإعلام المختلفة استقبلت الهيئة بحملات لغرس الشك واضعاف الثقة بقدراتها، وهو ما انعكس على مدى حماس المواطن للإبلاغ عن الفساد.. أما الأمر الآخر، فإن وسائل الإعلام بجميع أنواعها لم تتحول إلى «عين» للهيئة لرصد الفساد كما كان مأمولاً، بل إنها جميعاً تلعن الفساد دون ان تجرؤ إحداها على كشف جريمة فساد.. بل ان الفاسدين يحظون بحماية أكبر في صحف المعارضة، لأنها مؤمنة بأن تفاقم الفساد في الدولة هو اسهل سبل انهيارها، وبالتالي فهو أحد أهم رهانات الوصول إلى السلطة. ينبغي على الهيئة فتح التعاون المباشر مع الأخ وزير الإعلام، لفرض مساحات إعلانية مجانية لصالح مكافحة الفساد في جميع وسائل الإعلام الرسمية، وإنتاج إعلانات تلفزيونية مجانية تبث بين فواصل البرامج للتوعية بالغرض نفسه.. وكذلك مطالبة الحكومة بوقف أي تمويل لندوات وحلقات نقاشية باسم مكافحة الفساد، وتحويل مخصصاتها إلى طباعة ملصقات، ونشرات توعوية، فقد تحولت مثل تلك الندوات إلى أدوات إفساد لمفاهيم مكافحة الفساد خاصة وأنها تقام في فنادق الدرجة الأولى التي لا يدخلها سوى خاصة الناس !