لا يتساهل التاريخ أمام من يتجاوز نواميسه وقوانينه الداخلية؛ لأن التاريخ يجيد محاصرة الواهمين وإرغامهم على دفع استحقاقات التجاوز والتمرد على القوانين الموضوعية . هل التاريخ كائن حي يفعل فعله خارج إراداتنا وأولوياتنا، أم أنه صناعة بشرية محظة ؟!، وإذا كان التاريخ من صنعنا نحن فأين المشيئة والقدرة الربانية السابقة على أفعالنا وتقديراتنا ومكرنا الإنساني المحدود ؟. طوال قرون من المتاهات والتدابير البشرية القاصرة أثبت التاريخ أنه أدهى من الإنسان وأمضى من كل الأسلحة، ومن سخرياته التراجيدية أن العتاة الغلاظ يتساقطون صرعى أمام قسوة الحقيقة الموضوعية وقوانين الزمن، فقد ذكر القرآن الكريم مصائر الجبابرة ممن اعتدّوا بقدراتهم ومُلكهم، لكنهم سرعان ما تحولوا إلى نقطة في بحر العدم بعد أن قال الحق فيهم قولته فسقطت قلاعهم وانهارت ممالكهم، ولم يجدوا ما يلوذون به عندما حصحص الحق وظهر بطلان ما كانوا يفعلون . تحدث بعض علماء التاريخ منذ فترة عن مقولة «دهاء التاريخ»، لكنهم لم يقرأوا فيما ذهبوا إليه سوى الشواهد والمصائر المحتومة التي رأيناها في تواريخ الشعوب والبلدان، حيث غاب البعد الأكثر جوهرية والمصدر الأساس لهذه الظواهر، متمثلة في المشيئة الإلهية والناموس الأكبر الذي ينتظم الحياة، ذلك الناموس الذي يعتبر التوازن أصلاً أصيلاً في بقاء الظواهر، والإخلال بها بداية للمفسدة التي تؤدي إلى انحلال تلك الظواهر إيذاناً بعهد جديد . تلك السنة الإلهية في الخلق تسري على قوانين الطبيعة والمجتمع والكون؛ لأنها تصدر عن إرادة واحدة سابقة على إدراكنا وتدخلاتنا، وإذا ما أمعنا النظر في مختلف الوقائع سنصل إلى قناعة مطلقة بهذه الحقيقة. إذا كان للتاريخ عبرة وعظة فإننا نحن العرب أكثر شعوب العالم حاجة لكي نأخذ العبرة والعظة من شواهد التاريخ ونواميسه ، من دهائه وتصاريفه القدرية ، من أحداثه التي اختزلت أهراماً من المعاني والدلالات .