الأقدار النفسية هناك عدد من القيم والمبادئ النفسية التي تخلق دافعاً للتغيير، لكنها صارت محلاً للتجاذب بين طرفين متشاكسين، مما أدى إلى سوء فهم كبير لها، ولتتحول إلى معول هدم في صرح فاعلية الفرد على المدى البعيد، ومن أهمها: 1 المشيئة: عندما نقرأ آيات القرآن نجد أن مشتقات “المشيئة” وردت236 مرة توزعت بين الانتساب إلى الله والإضافة إلى الإنسان. ونتيجة الأزمة الفكرية وسوء الفهم الناتج أساساً عن القراءة الجزئية للقرآن، فقد ظهر من أثبت كل المشيئة للإنسان وهم القدرية، وفي الطرف الآخر هناك من نفى عن الإنسان كل مشيئة واختيار، معتبراً إياه أشبه بالريشة في مهب الريح وهم الجبرية. ولو نظرنا في المواضع التي ورد فيها الفعل الماضي “شاء” وهي ستة وخمسون موضعاً، لوجدنا بأنها نسبت المشيئة إلى الله في ستة وأربعين موضعاً، وإلى الإنسان في عشرة مواضع وهي كما يأتي: أ مشيئة الله: من الآيات التي نسبت المشيئة إلى الله قوله تعالى {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}[البقرة: 20] لكنه تعالى بمشيئته لم يُذهِب ذلك، لأنه أراد من الإنسان أن يمتلك أدوات الوعي والفكر والاختيار ليتحمل مسؤولية اختياره. وقال{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم}[المائدة:48]، {ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم}[البقرة:220] لكن الله لم يجعل الناس أمة واحدة ولم يعنت الناس، مع أنه قادر على ذلك فهو عزيز وحكيم، لكنه أراد أن يختبر الناس؛ لأنه ما خلق الحياة إلا لذلك{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور}[الملك:2] فهكذا اقتضت مشيئته وحكمته، ولكن هذا لا يحدث إلا إذا توافرت للإنسان المشيئة للاختيار. ب- مشيئة الإنسان: قال تعالى{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}[الكهف: 29] ، {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً}[المزمل: 19] . وقد تواطأت في هذا السياق آيات عدة لبيان أن القرآن تذكرة وأن الرسول مذكِّر لمن شاء من الناس أن يتذكر. وأهم هذه الآيات: طه : 13، يونس : 99، الكهف: 29، الزمر: 1115، الحاقة : 38 48، المدثر : 49 55، الإنسان : 29 31، عبس: 11 ، 12، التكوير:27، 28، الغاشية: 21 ، 22. وقد قام العلامة عبدالرحمن حبنكة الميداني بجمع هذه الآيات في تفسيره الموضوعي الرائع، وشرحها بما يجسد الفكر الإسلامي الوسطي في فهم القدر، كما كان عليه الرسول(ص) وأصحابه(1). ومن بين تلك الآيات قوله تعالى {إنها تذكرة فمن شاء ذكره}[عبس:21] . إن من أبرز صفات القرآن الدائمة أنه ذكر “يُطَالَب المؤمنون به أن يذكروه دواماً بألسنتهم، وأن يتذكروا ألفاظه، وأن يتذكروا معانيه بأفكارهم، وأن يكون وجوده بينهم تذكرة حاضرة بأمور دينهم وآخرتهم، وواجباتهم نحو ربهم، كما أن التذكرة التي يتخذها الناس وسيلة حاضرة تذكرهم بحاجاتهم التي يهمهم أن يتذكروها. أما قوله تعالى{فمن شاء ذكره}[عبس: 12] فيدل على أن من شاء من المكلفين قَبِلَ هدايته، وتعلَّم مضامينه، وعَرَف ترغيباته، وترهيباته، ثم كان مع آياته في ذكر متكرر ليكون له تذكرة حقا”(2) . والله تعالى يؤكد أن من أراد الاستقامة فإنه سيجدها في الذكر “القرآن” إذا استمدها منه، من خلال منهج التدبر والفهم، كأن من لا يتدبر القرآن فإنه لا يريد الاستقامة ولا الهداية، قال تعالى{إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 27، 28] “أي أنه ذكر يتذكر به من وَجَّه إرادته لأن يستقيم على الجادة الواضحة، جادة الحق والعدل. أما من صرف نفسه عن ذلك ولم يرد إلا الاعوجاج والانحراف عن طريق الحق والصواب فذلك الذكر لا يؤثر فيه ولا يخرجه من غفلته. على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، ولا ريب في أن كل مكلف قد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ليطلبه وأن يحفز عزمه إلى الخير ليكسبه”(3). ويفسر هاتين الآيتين أحد أعلام الفكر في هذا العصر، فيقول” أي يتلقونه أولاً، فيتفكرون في معانيه، ويتدبرونه ثانياً، فيعملون بما يهديهم إليه ثالثاً، ثم يجعلونه ذكراً لهم آناً فآناً، يراجعون آياته، ويذكرون منه دواماً ما يلائم الأحوال والمناسبات التي تستدعي منه بياناً بشأنها”(4). وهذا يعني عدم تناقض المشيئتين بل تكاملهما، كما يتأكد ذلك في النقطة التالية. ج- تكامل المشيئتين: لقد خلق الله الإنسان وأودع فيه إمكانات الخير والشر بمشيئته، وخلق الحياة موجداً فيها سبل الخير والشر بمشيئته، وأعطى الإنسان كل إمكانات الفهم والوعي والاختيار، وطالبه بأن يسير في طريق الخير لكنه لم يرغمه على ذلك، بل ترك له مشيئة الاختيار، وهو في كل الأحوال يفعل ما يشاء دون أن يخرج عن مشيئة الله التي قضت أن من يسير في طريق الشر فإن مصيره إلى النار، وأن من يسير في طريق الخير فإن مصيره إلى الجنة . حتى الآيات التي تَوَهَّمَ منها الجبرية أنها تلغي مشيئة الإنسان ليست كذلك لو تمعنا فيها النظر، مثل قوله تعالى {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149] فإنها تؤكد السنن الإلهية التي تمثل مشيئة الله وليست نفياً لها كأنه يقول لو شاء الله لهدى الناس جميعاً سواء استحقوا الهداية أم لم يستحقوا، لكن غاية ما تعمد إليه مثل هذه الآية أنها تلفت الأنظار إلى أن الله مالك السنن وأنها لا تعمل وحدها وأن باستطاعته تغييرها لو أراد، لكن مشيئته الأولى قضت أن تسير الحياة على هذه السنن ومنها سنة الاختيار الممنوحة للإنسان. ومثل هذه الآية قوله تعالى {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253] فقد قضت مشيئته تعالى أن يخلق أسباباً لكل ظاهرة ومقدمات لكل نتيجة، وقد سلك هؤلاء أسباب الاقتتال فاقتتلوا، وقد فعل الله ما أراد ، حيث ترك من أراد الاقتتال ليسلك طريقه حتى وقع فيه ، وهذا تأكيد لوقوع مشيئة الإنسان في إطار السنن الاجتماعية والقوانين الكونية التي هي مشيئة الله الأولى، ولأن هذه الآيات تؤكد هذا المعنى فقد عاب الله على المشركين والمنافقين الذين تحججوا بالقدر، قال تعالى {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148] {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء}[النحل: 35] . وقد كان سلف الأمة يستنفذون الأخذ بالأسباب وهي من مشيئة الله، فإن جهدهم هذا يجسد مشيئتهم ، والتزامهم بالقوانين وسنن الفاعلية يجسد مشيئة الله، وفي الأحوال كلها يدركون أن الكون وما فيه من نواميس وأسباب وإنسان وأشياء إنما هي ملك لله، وبالتالي فإن الكون يسير كله بمشيئة الله. وبالطبع فإن هذا المعنى يختلف عن الفكر الجبري السلبي في التعامل مع الأقدار، وهو الفكر الذي ارتدى عباءة التسليم لله فأفسد الحياة، وكان أحد الأسباب الرئيسة في تخلف هذه الأمة على المدى البعيد ، ولا سيما أن الحكام شجعوا هذا الفكر لأنه يحميهم من مساءلة الناس على اعتبار أن الله إذا أراد تغييرهم فسيفعل!. وبسبب هذا الفكر الجبري وكرد متطرف عليه ظهرت مجموعة أُطلق عليهم القدرية لأنهم في سبيل إثبات فاعلية الإنسان واختياره وصلوا إلى حافة إنكار القدر، مستخدمين بعض المصطلحات والألفاظ التي لا تليق بالله. وإمعاناً من بعض العلماء في محاربة الفكر القدري وما استخدم أصحابه من مصطلحات، فقد كاد هؤلاء العلماء أن يقعوا في فخ الفكر الجبري. ومن هؤلاء ابن حزم الأندلسي (ت/456ه) الذي مال إلى التعامل مع ظواهر النصوص، ولما كان المعتزلة من أكثر فرق المسلمين إعمالاً للعقل في النصوص إلى حد التكلف، فقد صار شديد العداوة لهم، ولما كان المعتزلة هم أشهر أنصار الفكر القدري الذي يرى بأن الإنسان “يخلق” أفعاله- بهذا اللفظ- مع ما تبع هذا الفكر من تداعيات، فقد ذهب ابن حزم إلى أن الله يخلق أفعال العباد بعبارات قد يتوهم منها بعض الناس أنه من أنصار الفكر الجبري(5) . ومن يمعن النظر في كتب ابن حزم سيلاحظ بوضوح أنه مع اختيار الإنسان ومشيئته، ومسؤوليته العادلة عن هذا الاختيار، فقد انتقد بصرامته المعهودة الفكر الجبري، وأكد بعودته للقرآن أنه يثبت للإنسان عملاً واختياراً، ومما قاله في هذا السياق: “وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة وموجب أن لنا حولاً وقوة، ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى، ولو كان ما ذهبت إليه الجهمية(6) لكان القول “لا حول ولا قوة إلا بالله” لا معنى له، وكذلك قوله تعالى {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين}[التكوير:28، 29] فنصّ تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله تعالى كونها” (7). وانتقد ابن حزم من يظن أن في القضاء والقدر معنى الإكراه والإجبار، وأكد أن القضاء في لغة العرب- التي هي لغة القرآن- إنما هو الحكم، والقاضي هو الحاكم، والقضاء يكون أيضاً بمعنى الأمر، كما قال تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء:23] وبمعنى أخبر كما قال تعالى {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}[الحجر:66] بمعنى أخبرنا أن دابرهم مقطوع بالصباح . أما القدر فمعناه الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء، تقول: قدرتُ البناء تقديراً: رتبتُه وحددتُه، قال تعالى {وقدر فيها أقواتها}[فصلت:10] بمعنى رتب أقواتها وحددها . ووصل إلى أن “معنى قضى وقدر حكم ورتب، ومعنى القضاء والقدر: حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه، أو تكوينه أو ترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا”(8).. وهكذا عرفنا أن مشيئة الله هي النواميس والقوانين والأسباب التي أودعها في الكون وفي هذه الحياة، إذ خلق أسباباً للشر وأخرى للخير، وأوجد قوانين للضعف وأخرى للقوة، وبالتالي فإن من يسير في طريق الخير والقوة والطاعة فهو في مشيئة الله ومن سار في طريق الشر والضعف والمعصية فهو في مشيئة الله، وفي ذات الوقت فإن صاحب الخير وصاحب الشر لم يفقدا مشيئتيهما واختياريهما، بل اختار كل واحد طريقه فأعانه الله عليه.