من يتدبر الآية 256 من سورة البقرة, يتبين له أن الله أحكم بيان حكمه بنفي الإكراه في الدين إستناداً على تبين الرشد من الغي ووصف حالة الإكراه بالطاغوت, فقال تعالى:«لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم». وهذا النفي يشمل كل مكونات الإكراه في الدين, ليشمل وجوده بمعنى لا يوجد إكراه في الدين, ووقوعه بمعنى لا يوجد من يكره في الدين, وشرعيته بمعنى لاشرعية للإكراه في الدين, فإذا وجد هذا الإكراه وقام بممارسته فرد أو سلطة فذلك هو الطاغوت الذي يكون الكفر به والإيمان بالله الذي أمر بنفي الإكراه في الدين, استمساك بأوثق العرى التي لا انفصام لها, فهل تكون من الطاغوت أي سلطة حكم مارست الإكراه في الدين باسم الإسلام, أم أن الآية تنفي الإكراه عن غير الإسلام وتأمر به لهذا الدين؟. من إجمال الآية وتفصيلها, نجيب أن النفي يشمل الدين, أي دين وكل دين, بما في ذلك دين الإسلام وبإحكام يجيز لنا القول إن الآية تعني لا إكراه في الإسلام, ليكون الإكراه فيه طاغوت, لأن الحق للناس من ربهم هو المشيئة الحرة من أي قهر أو إكراه, ففي الآية 29 من سورة الكهف, يأتي أمر الله لرسوله ان يبلغ رسالته للناس بهذا البلاغ المبين, قال تعالى:«وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وعلى هذا الحق تتأسس سلطة الحكم بين الناس لتكون وظيفتها حراسة هذا الحق للناس, وضمان ممارستهم له بأمر العدل والإحسان بغير بغي أو عدوان. والآية هي من الآيات المحكمات اللائي هن أم الكتاب, لأن مشيئة الله اقتضت أن يخلق الناس ليبلوهم في الحياة والموت على الأرض, بما شاءوا أن يكون عليه جزاءهم , ثواباً أو عقاباً, وعلى مقتضى هذه المشيئة قام الحق للناس خلقاً وجاء به الوحي أمراً لتتوحد الربوبية والألوهية لله الواحد في الخلق والوحي«ألا له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين» الأعراف, الآية 54. إن رسالة الله التي بلغها من اصطفاهم رسلاً تبين الحق بأوضح صورة تشهد أن الذي شاء أن يبتلي من خلقهم بشراً بفتنة الخير والشر, لن يتنزل بأمره ديناً يصادر مشيئة الناس ويسلبهم ماوهبهم خلقاً بأمر إكراههم في الدين, لذلك نقول إن أي سلطة حكم تحتكم في قيمها العليا إلى دين الله الإسلام هي سلطة تحرس حق الناس في اتخاذ سبيلهم إلى ربهم بما شاءوا لأنفسهم من اختيار بين الشكر والكفر والكسب من هذا الاختيار أعمالاً يحاسبون عليها ويجزون بقدرها, ثواباً في جنات النعيم أو عقاباً في نار الجحيم. إن الإسلام بمعناه اللغوي, تسليم وخضوع, فهو تسليم بمشيئة الله التي اقتضت ان تكون حياة الناس على الأرض ابتلاء وهو خضوع لهذه المشيئة بنفي إكراه البشر في الدين وإجبارهم على التدين بغير ما هم مؤمنين به طوعاً, واتخذوه سبيلاً إلى ربهم بمشيئتهم الخالصة من أي جبر أو قهر أو إكراه, وهذا الإسلام الذي اصطفى الله به من الناس رسلاً فوضهم أمر إبلاغ رسالاته للناس, تبشيراً وإنذاراً, ليتبين الرشد من الغي. فجاء في البلاغ المبين لعبد الله ورسوله وخاتم النبيين, قوله تعالى:«إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً ، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيما ، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما» الإنسان: الآيات 2931. وفي القرآن يتبين لنا الرشد من الغي, حين تقطع كل آياته بإحكام وتفصيل بنفي أي سلطة للرسل على الناس بحب أو إكراه, قال تعالى:«وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب» الرعد, الآية 40. فمن تولى عن دعوة الرسل وأعرض فإلى الله مصيره وعلى الله حسابه, ومن آمن واهتدى, أفلح ونجا, قال تعالى:« قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوا تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين» النور, الآية 54. فإذا كان الله لم يعط من اصطفاهم رسلاً مهمة السيطرة على الناس وإكراههم في الدين, فإن هذه المهمة ليست لأحد من الناس على غيره وإن زعم أنه يقيم فيهم دين الإسلام, وعلى جماعات وأحزاب التيار الديني في الأقطار العربية, أن تدرك أن دعواها إقامة دين الإسلام في مجتمعاتها بقوة السلطة هو الطاغوت الذي تجاوز حق الناس من ربهم فيما شاءوا لأنفسهم من كفر وإيمان, وعليه نقول إن سلطة الحكم التي استلمت لمشيئة الله وخضعت لحكمه المنزل بنفي الإكراه في الدين هي السلطة التي تحرس حق الناس من ربهم فيما شاءوا لأنفسهم, فهي تحرس حق المؤمن في اتخاذ سبيله إلى وعد ربه بالنعيم, كما تحرس حق الكافر في اتخاذ سبيله إلى وعد ربه بالجحيم, وليس في الإسلام ما يمنح سلطة وظيفة الإكراه في الدين وللحديث صلة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك