مهما بلغت أقلامنا وعقولنا شأواً رفيعاً من الدراية والإحاطة بالأمور ، فإن التفاضل والتمايز يتحدد بدلالة القيم الأخلاقية والإنسانية التي يتضمنها ذلك الفكر أو الثقافة.. والتي هي في الأصل مستوحاة من العقيدة الدينية التي كان لها فضل توصيف الممارسة أو السلوك البشري بين حسن وقبيح وغير مستحب. وبناء على ذلك المفهوم فإن من الخطورة بمكان أن تنشأ خصومة بين المؤسستين الثقافية والدينية ،حيث إن توازن المجتمع لايستقيم بغير القيم التي يغرسها المثقف في وعيه ،كما هو حال رجل الدين إن لم يتعاط مع متغيرات عصره.. وبالتالي فإن موقف النخب الثقافية تجاه بعض الجزيئيات في فلسفة الرموز الدينية لاينبغي أن يتخذ بعداً صدامياً كي لايطال التعصب بقية الجزيئيات فيفسد الوعي الإنساني. في الآونة الأخيرة انتابني قلق من المسار الذي اتخذته ردود أفعال الوسط الثقافي اليمني تجاه مشروع «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ،حيث خرجت الأقلام عن خطوط الاختلاف الآمن ، إلى القذف والتجريح بفضيلة السادة العلماء ، والمشائخ ،ومن سار في ركبهم من بقية رجال الدين الأدنى منزلة.. وهو أمر في غاية الخطورة إذا ما انسابت التعبئة فيه إلى رؤوس الشباب ممن لم تحصنهم تجاربهم بوعي كافٍ يسعفهم بتمييز جزيئيات الخلاف ، فتهتز في رؤوسهم صورة المؤسسة الدينية ، وتتماهى الثقة برموزها ، فنكون قد جنينا عليهم وعلى المجتمع بإفراغه من القيم الأخلاقية والإنسانية خاصة وأن الحديث يجري بلغة العموميات. للأسف أن بعض الأقلام تطرفت في موقفها وهي تكيل التهم للطرف الآخر بالتطرف..! فإذا كانت بعض نخب الثقافة والإعلام تعتقد أن مشائخ الهيئة منغلقون على أفكارهم ومتعصبون لأنفسهم ، إذن أين السلوك البديل أو النقيض فيما اندرجت فيه بعض الكتابات المعارضة للهيئة من شتم وتجريح وتجريم!؟ لست هنا لأدافع عمن هم أفصح مني لساناً ، ولكن لألفت الانظار إلى خطورة تغييب منطق الحوار الإيجابي ، والاستدلال العقلاني الذي يقابل الرأي بالرأي ، والحجة بالحجة ، وعدم الاستباق بالحكم قبل استبيان الحقيقة.. فالمشروع من حيث التوصيف «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يطرح وظيفة اخلاقية وإنسانية ودينية هي من صميم عقيدتنا الإسلامية ،ومن صميم الاحتياجات الملحة في الوقت الراهن.. ولا أعتقد أن هناك من يعارض الفكرة.. ولكن ماتثار من ردود الأفعال كلها متصلة بالآليات،رغم أن ملتقى الفضيلة لم يأت على ذكر الآليات اطلاقاً لابالهمس ،ولا بالغمز ، ولا باللمز!! أعتقد أن من المبكر جداً بناء مواقف قطعية ازاء الهيئة ، والزج بالساحة الثقافية في صدام مع الساحة الدينية طالما والمسألة مازالت بحاجة إلى تأطير قانوني لاكتساب الشرعية ، وأن هناك أيضاً توصيفاً دستورياً للجهات التنفيذية.. كما أن هناك من أخبرني بأن وظيفة الهيئة ستقتصر على رصد الظواهر والرفع بها إلى السلطات التنفيذية لاتخاذ اجراءاتها بحقها - وربما بمرافقة أحد أعضائها - لكن لم يتسن لي التأكد من مدى صحة أو دقة هذه المعلومة.. إن مايهمنا في المرحلة الحالية هو ألا تتورط ساحتنا الثقافية والإعلامية بمعركة خطابات مع العلماء والمشائخ ورموز المؤسسات الدينية ، فالجميع يعلم أن الشرارة الأولى انطلقت من المعهد الديمقراطي الامريكي ، الذي رمى بكل ثقله لتأجيج الموقف ضد الهيئة.. ثم بلغ الأمر أن يجتمع الملحق العسكري الامريكي مع اتحاد الفئات المهمشة «الأخدام» وقبل أن يعدهم بتقديم الدعم سألهم عن رأيهم في هيئة الفضيلة..!! وبتقديري أن هذا كافياً للاقتناع بأن تفجير الصدام مع المؤسسات الدينية هو غاية امريكية لإفراغ المجتمع مما بقي له من قيم وأخلاقيات.. أما مايتحفظ عليه المثقفون أو قلقون من أمره فذلك شأن مقدور عليه طالما بوسعهم الجلوس مع المعنيين واستيضاح الأمور منهم.. وكل شيء يكتسب شرعيته من القانون!!.