بعد أربعة عشر قرناً من ظهور الإسلام لم يكن متوقعاً أن نقف مجدداً أمامحالة اغتراب ثقافي يحتدم فيها الجدل بين بين القداسة الدينية والحداثة الفكرية في ظل انهيار شبه تام لأي وشائج تكفل تواافقاً ثقافياً معقولاً يمد جسوراً أمنه بين رجال الدين ورجال الفكر والثقافة رغم ان مزج هذه المسميات هي الصيغة الأصوب للكتابة عن الشأن الثقافي الإسلامي. فبين الحين والآخر تتأج المواجهة بين الفريقين ليكشر احدهماعن فتاوي تكفيرية أو طعون دينية، فيما الآخر ينهال بوابل من القذف الصريح بالدجل والشعوذة أو التجريم بالإرهاب، حتى يبدو المشهد خصومة مع الدين ومعاداة للحداثة، في الوقت الذي لا يتعدى الأمر سوء توفيق للأفكار، يغلفه التعصب والرفض المسبق للآخر، وتصور الوعي في التعاطي مع الجانب الاخلاقي الذي يمثله الدين. في مقال سابق حول هيئة الفضيلة أو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ابديت قلقعاً من أسلوب النقد الذي ساد حينها، والذي كان يفتقر لكثير من المسوغات والحجج التي تبرر الموقف السلبي من الهيئة، وتخوفت من ان يفهم الموقف على أنه خصومة مع الدين.. لكن يبدو ان الحالة تتكرر في قضايا أخرى، ويقع بعضنا في المحظور ليس فقط لانه اختزل بعض السطور من باب ثقته بوعي القارئ وقدرته على إدراك المقاصد، بل أيضاً لان بعض المشائخ من رجال الدين لا يثقون بالكتاب، ويؤطرون افكارهم بالكثير من الشبهات، ويفترضون ضعف ايمانهم وتقواهم.. كما ان اسفاف بعض الاقلام في تحميل قول الخطيب أو رجل الدين فوق ما يحتمل قد يقود إلى حالة الصدام غير المرغوبة بين المنبرين الذي يفترض بهما حمل أولوية وتنوير المجتمع، وتشذيب اخلاقياته. اعتقد اننا جميعاً رجال دين وحملة أقلام معنيون بمراجعة مفردات المسألة الإيمانية المرتبطة بقيم الدين.. فالدين ليس مجرد محظورات وقوانين تحريمية، بل فيه مباحات،وفيه من القيم ماتوافق كل زمان ومكان.. وكما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : «الدين معاملة» وبالتالي فهو المعيار الذي يحدد السلوك الإنساني للعالم، والصحافي والطبيب والعامل وكل كائن بشري على وجه الأرض. ومن هنا، وفي ظل مساحة التعايش العصري لا ينتظر المرء من الآخر ان يخبره كم من سور القرآن يحفظ بقدر ما يستشف ذلك من حسن اخلاقه، وسلامة أفعاله وافكاره.. فمتى ما كان ذلك مترجماً لتعاليم الدين واخلاقياته فإنه الدين بعينه ولا تبقى غير المفاضلة في التقوى، وهي مفاضلة بالأعمال ولا سبيل إلى تأويله إلى الصفات والإنساب والألقاب. اننا بحاجة ماسة إلى تحرير عقولنا من موروثها التاريخي القديم الذي كان فيه الكاتب عامل صناعة ونشر المفسدة،ورجل الدين باحث عن استرزاق بالدجل.. فكل حياتنا تغيرت ومثلما صار رجل الدين يركب السيارة ويبحث علومه عبر الانترنت أصبح المثقفون الوية اصلاح للأمة وتوعية أبنائها ونشر الفضيلة بين أبنائها.. ولابد من وثوق كل طرف بالآخر لأجل صلاح الجميع.