انحصار الرذيلة وغلبه الفضيلة في أي مجتمع تعني بكل بساطة سمو شأن هذا المجتمع وعلو قدره عند الخالق عز وجل قبل خلقه. والمكانة العظيمة للأخلاق في أي مجتمع خاصة المجتمع الإسلامي الذي ننتمي إليه جميعا دفعت نبي هذه الأمة محمد "عليه الصلاة والسلام" لاختصار مضمون رسالته العظيمة بقوله: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. هذه الحقيقة التي لا يمكن دحضها أو التشكيك فيها بأي حال من الأحوال تدفعنا للقول بان مسألة إنشاء هيئة للفضيلة (تتولاها وتديرها الدولة) هي من حيث المبدأ مطلب شعبي خاصة وقد برزت إلى السطح ظواهر سلبية ودخيلة على أخلاقيات المجتمع اليمني. وهذه الظواهر المحصورة هنا أو هناك لا نعني انتشارها في المجتمع لا سمح الله لان مجتمعنا اليمني ككل والحمد لله مجتمع محافظ يمتاز بقوة تماسك وبقاء العادات والتقاليد الأصيلة في تكويناته الاجتماعية والأخلاقية المستوحاة من جوهر ديننا الإسلامي العظيم. هذه المقدمة المختصرة عن موضوعنا هذا والذي ابتدأنا شقه الأول بالإشارة إلى غياب الحكمة في تناول وطرح هذه المسألة الهامة من قبل طرفي الخلاف اللذان انقسما إلى مؤيد لإنشاء هيئه للفضيلة وفق تصوره الخاص وآخر معارض لهذا الإنشاء وفق تصوره الخاص أيضا.. وكما وعدنا القراء الأعزاء بالمساهمة من خلال الكلمة للتقريب بين وجهات النظر عبر التشخيص الموضوعي للمشكلة التي نشأت وذلك من باب الاجتهاد الشخصي الذي قد نخطأ فيه أو نصيب، وعليه نبدأ بالقول: الشيخ عبد المجيد الزنداني عالم فاضل ومعروف على مستوى عالمنا العربي والإسلامي بعلمه الغزير خاصة ما يتعلق بالعقيدة والتوحيد والإعجاز القرآني. والشيخ حمود الذارحي مشهود له أيضا بالعلم والتقوى, وهذان العالمان هما ابرز من دعا لإنشاء هذه الهيئة وفقا لتصورهما الخاص وهو اجتهاد يشكران عليه، وسينالا الأجر من الله على نواياهما من هذه المبادرة.. لكنهما من وجهة نظري لم يدعما هذا الاجتهاد من البداية بطرح الغايات والأهداف والتصور العام لإنشاء مثل هذه الهيئة بشكل شفاف لا يحتمل اللبس أو التأويل، ولم يضعا آليات عمل هذه الهيئة ويبرزانها إلى السطح بشكل يبعد الشكوك ويزيل تخوف المعارضون من ان تصبح هذه الهيئة نسخه طبق الأصل من تجارب مثيلاتها في الدول المجاورة خاصة ما هو موجود في المملكة العربية السعودية من تجربة غير مشجعة في هذا الجانب, وغياب الحكمة هنا واضح من وجهه نظري وما زاد من ذلك هو الإصرار على ان تكون تسميه هذه الهيئة هي نفس التسمية لتلك التي في المملكة (هيئه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو ما خلق حساسية عند الطرف المعارض فزادت شكوكه أو تخوفه.. والغريب هنا، بل ما يبعث على التعجب ان هذه التسمية بدأت ( بهيئة الفضيلة)، وعندما صعد البعض الموضوع اتخذت الهيئة هذا الاسم الجديد، وكأنها تبعث برسالة تحدي إلى الطرف المعارض ليستمر في شكوكه وتخوفه السابق- وهنا غياب آخر للحكمة التي نتحدث عنها. وكنت أتمنى ان تسمى هذه الهيئة ب(هيئه النصح) بناء على القاعدة الدينية المستوحاة من الحديث الشريف: (الدين النصيحة)، وهي اشمل من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" خاصة في ظل وجود دولة تؤمن بالفضيلة بناء على قوانينها ذات العلاقة، وبناء على الدستور الذي يقر ان الدين الإسلامي وشريعته السمحة هما "مصدر التشريع الوحيد" في البلد، أي ان دور العلماء من وجهه نظري في هذه الناحية يجب ان لا يخرج عن مضمون الآية الكريمة في قوله عز وجل: (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين)، وقوله: (وادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن).. وهنا غياب آخر للحكمة وقع فيه بعض علمائنا الأفاضل، فجدالهم مع الطرف المعارض خرج عن أصول الحوار الذي حثنا به الدين الإسلامي العظيم ودخل إلى المماحكات وردود الأفعال المنفعلة ورمي الناس بالتهم التي لا تليق ولا ينبغي ان تصدر من عالم دين(يأيها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم)..صدق الله العظيم.. واتهام الطرف المعارض بالعلمانية أو الخروج عن الإجماع أو الانسلاخ عن أخلاقيات المجتمع فيه شئ من المبالغة المفرطة، والتجريح الشخصي الخارج عن جوهر الدعوة "بالتي هي أحسن", والتعميم بفساد أخلاق المجتمع، وخطورة الاختلاط في مرافق العمل وانتشار الرذيلة في كل مكان شئ فيه الكثير أيضا من المبالغة بل والتجني على أخلاقيات مجتمعنا اليمني المتجذرة في الوجدان. وهناك جانب آخر وهام في هذا الغياب العجيب للحكمة الذي نتحدث عنه تتمثل في التكوين الضيق للمنتمين لهذه الهيئة الوليدة فغالبيه أعضائها من حزب سياسي معين هو حزب الإصلاح مدعوما ببعض مشائخ القبائل لإضفاء نوع جديد من التنظيمات التي لم نستطع وضع توصيفا لها حتى اليوم هل هي هيئة دينية صرفة أم تنظيم سياسي ديني جديد أم تنظيم ديني اجتماعي أم هي خليط من هذا كله!؟ اعتقد ان هذا الشكل البنائي للهيئة هو ما عمق الشكوك لدى البعض وزادهم تخوفا على تخوفهم السابق, ولكن هذه الشكوك أو المخاوف المشروعة لا ينبغي بأي حال من الأحوال ان تتحول إلى هجوم على علماء أفاضل مهما كانت المبررات لان العالم له قدره ومكانته في المجتمع، أضف إلى ذلك ان النقد القائم على الاحترام المتبادل والألفاظ الحسنة هو البديل الوحيد لهذا الهجوم الذي يفرق أكثر مما يجمع، ويجب ان لا نحرف مسار مبدأ الأخلاق والفضيلة المتفق عليه إلى مسار آخر يوقع الجانبين في ردود الفعل التي تخرجهما عن أدب الحوار والحكمة في طرح الأشياء كموضوع المعالجات الاجتماعية والأخلاقية التي اعتقد أنها تهم الطرفين معا- إن أحسنا الظن ببعض، حتى وان اختلفا في النظرة أو التصور.. وبدلا من رمي التهم أو الخوض في النوايا أو تعميق الشكوك التي لا تفيد لماذا لا يتفق الطرفان على إقامة جلسات حوار مشتركه للخروج من هذا الجدل برؤية مشتركه تنفع ولا تضر, وتزيل الشكوك والتخوفات ولا تعمقها, وتردم الفجوة التي نشأت لا توسعها؟؟ لماذا لان دعوا ككتاب في صحفنا إلى إضفاء الصفة القانونية لهذه الهيئة لتعمل وفقا للقانون وفي إطار مؤسسات ألدوله ذات العلاقة وبأدوات واليات عمل الحكومة فقط، خاصة وقد أشار بيان الهيئة في اجتماعها الأخير إلى ذلك، وهذا ما يجعل الكرة في ملعب الحكومة ان أحسنت التصرف وأخذت زمام المبادرة لحل هذا الإشكال بحيث لا يتعدى عمل هذه الهيئة مجال النصح الرشيد والتذكير بالتي هي أحسن وبالكلمة الطيبة التي لا تشوبها أي شائبة أو أي أغراض دنيوية وهي الكلمة التي شبهها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بالشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت التي تعلوا فروعها إلى السماء لنجنى ثمارها في كل حين.. ( ومثل كلمه طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)... صدق الله العظيم. إقرأ الجزء الأول: الحكمة يا أهل الحكمة..... (1)