البحث عن الأمن حاجة ستلازم البشرية حتى فنائها طالما وأنها ترتبط بالفضيلة الإنسانية، والصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر، إلا أن ذلك لايمنع الشعوب من البحث عن وسائل تكفل لها القدر الأكبر من الأمن. هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن قوة البناء المؤسسي للدولة، وصرامة الأجهزة الأمنية والقضائية هي الحل الأمثل للمشكلة الأمنية، إلا أننا عندما نسقط هذا الاعتقاد على دولة بتلك المواصفات كالولاياتالمتحدةالأمريكية نفاجأ بأنها تتصدر قائمة الدول الأكثر جرائم على مستوى العالم، وتتفوق على اليمن بنسبة كبيرة، رغم افتقار اليمن نسبياً للبنى المؤسسية، وصرامة الجهاز القضائي، ولسطوة القانون مقارنة بما لدى الولاياتالمتحدة.. فما السر إذن !؟ - البعض الآخر من الناس - وخاصة التيارات الإسلامية - ترجع أسباب تفشي الجرائم إلى المعتقد الديني، ومدى تمسك المجتمع بالتعاليم والقيم الدينية، ويدعون إلى إقامة أنظمة دينية لحكم الدولة، بعيداً عن التشريعات الوضعية.. غير أن هذا لم يمنع من وقوع الجريمة حتى داخل الحرم المكي، واصطدم بمناهج تيارات متشددة تمارس العنف، وتمارس شتى الانتهاكات بحق غيرها من الطوائف أو الأديان، ولم يتحقق الأمن بذلك، بل انفجرت الأوضاع. ويتجلى بذلك أن المشكلة الأمنية لايمكن حلها بغير الجمع بين الجانب المؤسسي والجانب الأخلاقي أو الوازع الديني في إطار معادلة بناء متكافئة، حيث أن فضائل النفس قد تحد كثيراً من دوافع الجريمة سواء بالتحريم، أو السلوك الحسن القائم على التسامح والعفو، وتبادل الاحترام، والنصح، والجدل القويم.. في نفس الوقت الذي سيكون البناء المؤسسي للجهاز الأمني والقضائي العامل الأساس في تنظيم الحقوق والواجبات بمفاهيم العصر، وإحقاق العدل بين المتخاصمين، وردع قوى الشر من تعكير صفو هذا الوئام الاجتماعي، طالما وأن الرذيلة يستحيل تطهير أي مجتمع منها. وبناءً على تلك الرؤيا فإن مجتمعنا بحاجة إلى إعادة توازن بين ماتشهده المؤسسات الأمنية من تطور وتحديث في آليات العمل ،وبين الجهود الرامية إلى حماية قيم المجتمع ، وترسيخ الممارسات الفاضلة في سلوكيات أبنائه.. وهي في وقتنا الحاضر لم تعد وظيفة المسجد وحده ، بل كل مؤسسات الفكر والثقافة المعنية ببناء شخصية الفرد الثقافية.. إن مشاكلنا الأمنية لاتتعدى أن تكون مشاكل ثقافية ، مدفوعة في أغلبها بوازع الجهل ، والمواريث البالية التي مازالت راسخة في رؤوس الكثيرين.. وبالتالي فإن رغبتنا في ايجاد أمن مجتمعي لن تتحقق ما لم يتم تفعيل المؤسسات الثقافية في مختلف المستويات ، لتتولى نشر القيم السلوكية النبيلة بين أوساط المجتمع ، وتصحيح المفاهيم المغلوطة السائدة ،وتوجيه المجتمع إلى غاياته المنشودة على نحو سليم وآمن ، وبمنأى عن أية حسابات ضيقة حزبية ، أو مذهبية ، أو مناطقية أو عنصرية من لون آخر. وبكل تأكيد إن المسجد اليوم بات يمثل المؤسسة الثقافية الأولى القادرة على إعادة تقويم سلوكيات المجتمع ، وغرس القيم النبيلة في نفوس أبنائه .. وتأتي بعده بقية المؤسسات الثقافية والتربوية التي كان لغيابها أثر سلبي في تنامي الكثير من الاشكاليات الأمنية التي نواجهها اليوم ، وفي مقدمتها الكراهية على خلفيات عنصرية.. والجنوح إلى العنف ، والاختطافات ، وتفشي المخدرات ، وفساد أخلاقي كبير يستحيل للمؤسسة الأمنية مواجهته بغير دور قوي وفاعل للمؤسسات الثقافية.