الثورة تاريخ، والتاريخ تجربة، ومن لايستفد من دروس ماضيه لا مستقبل له..هكذا علمتنا الحياة، لذلك كانت تجارب النضال والثورة التي تخفق في النيل من المحتل أو سلطة الطغيان مشاريع لتجاربنا الناجحة، وما ثورة الرابع عشر من أكتوبر1963م إلا تتويج لتضحيات سابقة، ودماء كثيرة أريقت في مقارعة الاستعمار، ونزع الثقة من نفسه في إمكانية البقاء لأجل طويل. لا شك أننا جيل حصد ماغرس أسلافه غير أن الإدعاء بغير ذلك ونحن نستذكر أيام الثورة في ردفان لن يكون إلاّ ضرباً من التزييف التاريخي، ومصادرة نضالات الآخرين.. وما يؤكد هذه الحقيقة هو قيم الثورة نفسها.. لأن ثورة أكتوبر انتصرت ليس بقوة سلاحها أو ضعف المحتل، بل بقيمها الأخلاقية والإنسانية التي صنعت الإرادة اليمنية في الصمود بوجه المحتل، وإفشال مخططاته، وقهر أدواته الحربية، وممارساته القمعية. كثيرون هم اليوم أولئك الذين يتحدثون باسم الثورة، وينسبون لأنفسهم بطولاتها، ويدّعون زعامتها أو ريادة أدوارها، إلاّ أننا عندما نبحث فيهم عن أخلاق الثورة لا نجد منها شيئاً إطلاقاً.. فثوار أكتوبر رفعوا أسلحتهم بوجه قوة أجنبية غازية، فيما أدعياؤها اليوم يوجهون النداءات تلو النداءات لنفس القوة الغازية وقوى أخرى لاحتلال الوطن، وتدنيس تربته المخضبة بدماء الشهداء. وثوار أكتوبر ضحوا بأموالهم وممتلكاتهم ومن ثم أرواحهم في سبيل طرد المحتل، واستعادة السيادة الوطنية .. لكن أدعياء الثورة اليوم يقفون بالطوابير على أبواب سفارات نفس المحتل، ودوائره الاستخبارية لاستجداء المال مقابل بيع الوطن، ومساعدة الأجنبي على انتهاك السيادة الوطنية ومصادرة الإرادة الوطنية. عندما نقيس الموقف ونقارن بين أبطال الثورة وبين أدعيائها ندرك في الحال حجم الفرق بين الاثنين، بل إن كليهما مناهض بموقفه للآخر، وإن الأول تحلى بأخلاق الثورة، قبل حمل سلاح المقاومة والكفاح المسلح، فيما الثاني من أدعياء الثورة حمل السلاح وتجرد عن أخلاقه قبل أن يفكر بأخلاق الثورة. إذن فإن ما حدث تحت مسمى «حراك سياسي» أو «ثوري» في هذه المحافظة أو تلك من اليمن ليس إلاّ مؤامرة على ثورة أكتوبر نفسها، ومحاولة دنيئة لإفراغها من محتواها الأخلاقي من خلال نسب نضالاتها إلى قوة لم تعرفها البشرية إلاّ وهي تسرق وتنهب وتغتال، وترتكب أبشع المجازر الدموية بحق أبناء شعبها. للأسف الشديد إن مثل هذه المؤامرة تجري تحت مظلة غطاء إعلامي ونشاط ثقافي تورّطت فيه قوى سياسية أخرى ذات نوازع انتقامية تاريخية، مبنية على معطيات خلافات أيديولوجية مع القوى السياسية التي انتظمت على ساحة الجنوب عقب إعلان الاستقلال وجلاء آخر جندي بريطاني.. وهو أمر خطير أن يتم تصفية حسابات سياسية على أساس طمس معالم الحقيقة التاريخية، ومصادرة كل استحقاقاتها النضالية. أعتقد أن على كل القوى الوطنية المخلصة التصدي لهذا المشروع التآمري ومنع إفراغ ثورة أكتوبر من قيمها الأخلاقية والإنسانية، لأن ذلك ليس فقط حقاً لأصحابه بل هو حق لكل الأجيال اليمنية بأن تتفاخر بمجدها وبطولاتها وتضحيات أجدادها.