قد لا يسعفنا عالمنا بكثير من الشجاعة لقهر احباطاته المجهضة، أو تخذلنا إرادتنا أمام عصر مشحون بتحديات مريرة، غير أن اكتشاف عالم آخر، كعالم «الكفيفات» كفيل بإعادة كبريائنا إلى ذواتنا، ومدّنا بقوة حقيقية للانتصار على ظروفنا. لم أكن أعلم بهذا الكم الهائل من المكفوفين والكفيفات في اليمن، ولم أستغرب أيضاً عندما بلغني العلم، فالجهل والأمية والفقر لابد أن يصنعوا الكوارث الإنسانية، استغربت حين علمت بأن الجهات الرسمية لا تولي عملية الحد من أعداد المكفوفين أي اهتمام يذكر، كما أنها لا تخصص لجمعيات رعاية المكفوفين والكفيفات سوى الفتات.. فيما صندوق الرعاية الاجتماعية لا يقدم دعمه إلا بشق الأنفس،وبعد أن تكون تلك الجمعيات قد أنفقت ضعف المخصص، فالقائمون عليه مازالوا أسرى الروتين والإجراءات البدائية. في العاصمة صنعاء تبرعت السيدة الكريمة فاطمة العاقل بأرضية وبنت جمعية الأمان لرعاية الكفيفات بتعاون أهل الخير، واليوم للجمعية فرعان آخران في تعز وذمار وهناك «16» كفيفة يكملن دراستهن الجامعية.. وباتت «الأمان» هي من تطبع الكتب الدراسية للمكفوفين بطريقة «برايل» بل إن الكفيفات أصبحن يُجدن الطباعة وكذلك استخدام الكمبيوتر الناطق. كنت أتوقع أن عالم الكفيفات «عالم بائس» غير أنني عندما زرت جمعية الأمان اكتشفت أن عالمنا هو البائس والذي يستحق الشفقة من الآخرين ، فالسيدة الكفيفة فاطمة العاقل رفعت قواعد مؤسسة متكاملة، فيها السكن الداخلي، والمكتبة التي تحتوي أمهات الكتب بلغة «برايل» والصالة الرياضية المتعددة الأغراض، وأمور كثيرة لا أستطيع حصرها.. فالكفيفات لديهن من الثقافة ما يطيب للنفوس الاستماع إليهن، كما لديهن من الأخلاق والتهذيب ما يبهر من يتعامل معهن. لكن بدا لي أن الجهات الرسمية مازالت متأخرة عن طموح وإرادة الكفيفات، وظلت تنسى دائماً أن شعبنا يتحضر ويزداد وعياً، وأصبح الناس يحرصون على إيداع بناتهن الكفيفات في مثل هذه الجمعيات، ليس لأجل التخلص من أعبائهن بل للتفاخر بهن وقد اكتسبن علماً وتهذيباً وتحولن إلى عناصر منتجة في المجتمع.. لذلك لم تعد مشكلة جمعية الأمان مثلاً خطط وبرامج العمل، أو اكتشاف التجربة الأجدى، بقدر ما أصبحت المشكلة التدفق المتزايد للكفيفات على الجمعية ومن مختلف محافظات الجمهورية، في الوقت الذي ظلت وزارة الشئون الاجتماعية مرابطة عند ذلك المبلغ المخجل الذي تدعم به الجمعية سنوياً والذي يخجل قلمي عن كتابته. أمس التقيت الأخت بشرى المحفدي مسئولة العلاقات بالجمعية وكانت تتحدث معي بنفس الروح المعنوية العالية، والآمال الكبيرة حول تطلعات الجمعية ومشاريعها، وحين سألتها كيف تتدبرون أمر هذه الأعداد الكبيرة المتدفقة ؟ ابتسمت وقالت : إن شاء الله الأخ رئيس الجمهورية هو من يحمل العبء عنا.. ! وعندما عرفت أنهن حتى الآن لم يلتقين الأخ الرئيس دهشت لهذه الثقة العالية، وقررت أن أخصص عمودي للكفيفات لأرفع صوتهن إلى فخامة رئيس الجمهورية وأصارحه بأن بناته ينتظرن لفتته الكريمة.. وأعتقد أنه لو زار الجمعية لتمالكه الفخر بهذه المؤسسة الوطنية الرائدة في رعاية الكفيفات. كم أتمنى من جميع رجال الأعمال التوجه إلى دعم رعاية المكفوفين والكفيفات.. فإن الأعداد هائلة، وموزعة على جميع محافظات الجمهورية.. والكارثة مستمرة طالما وجهود الحد من الاصابة بالعمى غائبة.. فابتسموا لهم لأن قلوبهم خضراء كالربيع وصدورهم غارقة بالآمال.