غالباً ما تتخذ قضية الولاء والانتماء الوطني صفة فطرية يكتسبها الفرد من واقع التعايش الطويل مع البيئة والثقافة المجتمعية، غير أن كل ما تقوم به الجهات الرسمية للدولة هو صقل هذه المشاعر، وإبرازها تحت مسميات عصرية، وممارسات ظاهرة، وإلاّ فإن الحنين للوطن الذي يتولد لدى المسافر أو المغترب هو صورة حية من صور الانتماء الوطني. ويبدو أن قضية الانتماء والولاء الوطني غير مرتبطة بمستوى تعليمي فهي توجه ثقافي محدد، بقدر ارتباطها المكاني والزماني، وتؤطرها في الموروث التقليدي للمجتمع تحت مسميات مختلفة.. فعلى سبيل المثال لدى اليمنيين مأثورة تقول: (عزّ القبيلي بلاده ولو تجرع وباها)، وكذلك (عزّ الخيل صبولها)، وكانت شائعة على ألسن اليمنيين بقوة، وتكاد أن تكون أشبه بفتوى في أعراف المجتمع، وهي في الحقيقة تترجم ثقافة الانتماء التي نتحدث عنها اليوم بمفردات عصرية. بل في مواضع أخرى من الموروث الشعبي اليمني نجد ثمة دعوة صريحة لتقديم الوطن على أي مكان آخر والاستئثار بالخير والجهد لأجله، كما جسدها المثل الشعبي القائل (يا باني في غير بلدك لا لك ولا لولدك)! وهو الأمر الذي توارثت مفاهيمه الأجيال حتى في أحلك الحقب التاريخية جهلاً وتخلفاً ، لكونه مثّل لديها جزءاً مهماً من أخلاقيات المجتمع وقوانين التعايش «العرفية»!. اليوم يقف مجتمعنا أمام إشكاليات معقدة فيما يتعلق بالولاء والانتماء، رغم اتساع مساحة التعليم والثقافة والوعي العام لدى أفراده... وفي كثير من الأحيان نلقي بالمسئولية على عاتق المؤسسات التربوية، لكننا نتجاهل حقيقة أن المجتمع في الغالبية العظمى من تكويناته في طور إنسلاخ تدريجي من موروثه الثقافي بفعل سعة دائرة التأثر بالبيئات الخارجية، واحتكاك أفراده بثقافات، وأوساط علمية، وقيم فلسفية حديثة بدأت تحل بمكان ما كان يتداوله من قيم ومبادئ، لذلك لم يعد هناك الكثير من الناس الذين يستشهدون بالحكم والأمثال الموروثة بقدر استشهادهم بأقوال بعض مشاهير العالم. ومن هذا المنطلق اتسعت فجوة التواصل بين أجيال الوطن الواحد، وضعفت قنوات نقل الموروث والتجارب من الآباء إلى الأبناء، والتي تزداد هشاشة كلما ابتعدنا من مجتمع القرية باتجاه المدينة.. فظهرت في مجتمعاتنا الكثير من السلوكيات الغريبة والشاذة أيضاً، في نفس الوقت الذي تزامنت مع ظهور الكثير من السلوكيات الصحية والناضجة التي كانت للمعرفة الفضل الأول بولادتها. إذن فمسئولية تنمية مشاعر الولاء والانتماء كانت وليدة تلك الظروف، وبالتالي فهي تفرض على الجميع مهام غرس روح الانتماء للوطن عبر مختلف الممارسات المتاحة ابتداءً من التهذيب التربوي الأسري وانتهاء بالتعبئة العامة من خلال المدارس ووسائل الإعلام المختلفة، فيما سيكون على الأحزاب والتنظيمات السياسية تفادي فرض نفسها كبديل للولاء للوطن، وتوعية قواعدها بأن الوطن هو القيمة العليا التي لا مساس بها مهما تبدلت الظروف وتغيرت موازين اللعبة السياسية. وفي كل الأحوال نلفت إلى أن الانتماء يبقى في السلوك الباطني للإنسان كثقافة كامنة لايمكن إزاحتها بالكامل ولكن يمكن إضعافها أو تقويتها مهما كانت قوة المؤثرات عليها... وهي في كثير من الأحيان تستحوذ على أحاسيس الفرد بفعل أي ظرف طارىء يضع الوطن في موضع الخطر..!