لا أحد يعرف قيمة الوطن مثل الذي أمسى مشرداً خلف حدود بلاده بعد أن اغتصب محتل وطنه، أو مثل ذلك المغترب في المهجر الذي يتجرع مرارة فراق الوطن رغم أنه سيعود إليه يوماً..فالإحساس بالأمان لا يتحقق إلا عندما يكون المرء داخل وطنه، لأنها الحالة الوحيدة التي لا يشعر فيها أنه وحيد،إذ أن الأمان هو إحساس تمنحه الجماعة للفرد، فتزيد من ثقته بنفسه وبقدراته على مواجهة أي قدر مجهول.. كان آباؤنا وأجدادنا يحملون عقيدة راسخة بالوطن، لذلك كانوا يقولون: «عزّ القبيلي بلاده ولو تجرع وباها» وأىضاً «عز الخيل صبولها» ،وعندما بدأ أبناؤهم يدخلون المهجر،كانوا ينصحونهم بالقول:«يا باني في غير بلدك لا لك ولا لولدك»..ومن المدهش حقاً في هذه الثقافة هو أنها تولدت في مجتمع مغلق على نفسه، والغالبية من أبنائه لا يعرفون حتى حدود الوطن الجغرافية، ولم يسبق لكثير منهم أن غادروا قراهم إلى مدن أخرى من اليمن. إن الارتباط بالوطن يبدأ بارتباط الفرد ببقية أفراد أسرته، لذلك فإن الإنجليز يستخدمون نفس الكلمة «هوم Home» لتعني البيت والوطن أيضاً، وعندما يكون لأحدهم بيت يملكه ولا يعيش فيه فإنهم لا يطلقون عليه نفس الكلمة وإنما يسمونه «هاوس House» لأن المفردة الأولى تعني البيت الذي تعيش فيه ويمنحك الاستقرار والأمان،وليس العقار الذي تملكه.. لذلك عندما نتحدث عن الوطن، ويأخذنا الحماس للدفاع عنه سواء ممن يشتمه أو يعبث فيه،أو يحاول اغتصابه فإننا في الحقيقة ندافع عن استقرارنا وأمننا،وسلام عوائلنا، وليس عن مجرد تراب أو مبنى..أما عندما يبدي أحدنا استعداده للتضحية بنفسه من أجل الدفاع عن وطنه فإن ذلك إيثاراً بالنفس من أجل آخرين نحبهم ونخلص الود لهم، كأن يكونوا أهلنا،أو أصدقاءنا، أو شعبنا بشكل عام...لذلك عندما يقول أجدادنا «عز القبيلي بلاده ولو تجرع وباها» فإنهم ينطلقون من تجربة بأن الإنسان عندما يكون بين أهله ومحبيه فمهما تعرض لأقدار ومشاكل سيجد من يقف بجانبه، ويعينه على تجاوز محنته خلافاً لما يكون عليه حاله في بلاد غريبة. إن معظم المشاكل التي نقاسيها اليوم في اليمن سببها الرئيسي هو أننا لم نحصّن أبناءنا بمشاعر الانتماء للوطن،وربما لم يحسن بعضنا إيصال فكرة الارتباط بالوطن إلى عقول أبنائه سواء عن جهل أو لامبالاة ، لذلك وجدوا أنفسهم في خضم عالم مدني متداخل ومتنوع الثقافات في ظل الانفتاح الذي تشهده البلد، فانتموا إلى هذا العالم، واكتسبوا منه التنوع، والاختلاف، والتعايش المادي القائم على المصالح لأنهم يفتقرون إلى المرجعية الثقافية التي يستمدون منها مبادئهم في الحياة.. بعض أبنائنا قذفت بهم الحياة في أحضان «القاعدة» وغيرها ،وبعضهم انتشله الحوثي ليجعل منه حطباً لحربه العبثية، أو جرفته هتافات دعاة الردة والانفصال،،فسقطوا في المحظور، وصرنا جميعاً نلعنهم، من غير أن نلوم أنفسنا كآباء بأننا تركناهم يتخبطون في الحياة القاسية دون سلاح يحميهم من وحوشها البشرية...فلو غرسنا في نفوسهم حب الوطن بنفس الأسلوب البسيط الذي تحدثنا به لوجدناهم يرتمون بأحضانه فيمنحهم الحب والأمن والسلام.