بعد واحد وأربعين عاماً من انتزاع اليمنيين الاستقلال، فإن حسابات المنطق التاريخي، والتجربة السياسية المتراكمة كانت جميعاً تفترض بلوغ الوعي السياسي لدى مختلف القوى الوطنية خاصة تلك التي كانت في الواجهة النضالية، يقيناً تاماً، باتجاهات خط العمل السياسي الوطني الذي تتطلبه المرحلة، غير أن المؤشرات القائمة حالياً لا تدل على أن البعض استلهم درساً واحداً من التجارب الماضية. قبل واحد واربعين عاماً لم يكن من هم لدى اليمنيين سوى التحرر من الاستعمار البريطاني، لذلك لم يكن من صوت يعلو على صرخة الجماهير المنتفضة «برّع.. برّع.. يا استعمار».. ولان تجربة أكثر من قرن وربع تحت نير الاستعمار كانت مريرة للغاية، ومليئة بالظلم والمعاناة والإذلال لم تجد القوى الوطنية بداً من تبني أية ايديولوجية فكرية مناهضة للامبريالية التي مثلتها بريطانيا، فكانت الغلبة للاشتراكية التي لم تكتف بالمناهضة الفكرية للرأسمالية بل تجاوزتها إلى استعدادات المواجهة العسكرية. الغريب في الأمر هو أن تعود نفس القوى الوطنية بعد واحد وأربعين عاماً إلى الارتماء في أحضان الامبريالية، ومسح أكتاف نفس المستعمر الذي كانت بالأمس ترفع بوجهه البندقية، وتقدم قوافل الشهداء، في مقاومته، ومحاولة طرده من جنوباليمن. هذه المسألة التي لا يمكن أن يتقبلها منطق ولا يصدقها عقل لولا أنها ماثلة أمامنا اليوم، ربما ستضطرنا للتساؤل : هل يستطيع اليمنيون الجزم بأن اللاهثين إلى الارتماء في أحضان بريطانيا اليوم هم نفسهم من قاومها أمس، وخاطر بروحه من أجل طردها من اليمن ؟ وإذا لم يكونوا هم نفسهم لاستحالة الجمع بين روح المقاومة وكبرياء الكرامة وبين رغبة الركوع والعبودية، إذن أين ذهب الثوار الحقيقيون ؟ ومَنْ هؤلاء الذين يدّعون البطولة من فنادق لندن، ويتحدثون كما لو كانوا أوصياء؟ أعتقد أن بين اليمنيين من يمتلك الإجابة الوافية، فالأخ رياض حسين القاضي المقيم في ألمانيا ظل على مدار شهور طويلة يكتب على الانترنت محذراً من هؤلاء اللاهثين إلى أحضان المستعمر، وكان في كل مرة يؤكد لي بأن هؤلاء هم عملاء الاستعمار، ممن ظلت بريطانيا تستخدمهم لتصفية المناضلين والثوار والشرفاء.. وقد زرعتهم في البلد عند رحيلها من عدن لينوبوا عنها في الانتقام من هذا الشعب الجبار الذي تجرأ على هزيمة الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. أعتقد أن ما ظل يردده رياض القاضي، ويصرخ به منذ بداية ما يسمونه بالحراك دون أن يسمعه أحد هو الذي يفسر لنا اليوم لماذا لم يتوقف سيل الدماء آنذاك ؟ لماذا أصبح كل هم هؤلاء الأشخاص زج اليمن في فتن من حين لآخر ؟ ولماذا هم يفضلون لغة الرصاص والقنابل، ويهتفون في الشوارع ضد الديمقراطية، وضد الاستثمار، وكل ما من شأنه خير اليمن واليمنيين، وضمان استقرار وتأمين مستقبل أبنائه. لا شك أن هناك تحديات وطنية كبيرة أمام اليمن، وأن الجميع معني بمراجعة أوراقه قبل التورط بمشاريع استعمارية جديدة، فلم تعد النوايا خافية على أحد، ولابد من تحديد المواقف الوطنية للقوى السياسية في الداخل وكذلك إزاء من هم في الخارج، فبقدر ما هناك عملاء ومرتزقة، هناك شرفاء أيضاً حريصون على الوطن ولابد أن يكونوا داخله.