تميز التركيب الاجتماعي للمجتمع اللبناني بالتنوع الطائفي المناطقي والتعدد المذهبي، حيث يتكون المجتمع اللبناني من طائفتين كبيرتين «الاسلام المسيحية» موزعه على أكثر من 15مذهباً من هاتين الطائفتين الرئيستين، وزد على ذلك أن الانتشار المناطقي لهذه الطوائف أعطى بعداً آخر لهذا التنوع، حيث ارتبطت كل طائفة بمنطقة محددة وشكلت بيئتها الاجتماعية الخاصة وفق العادات والتقاليد والطقوس الدينية التي تمارسها تلك الطائفة. تعود جذور التنوع الطائفي والمذهبي إلى البدايات الأولى للدولة الاسلامية وفي ظل الحراك الاجتماعي والثقافي والديني في اطار الدولة الاسلامية، حيث تنوعت المذاهب والملل وتعايشت هذه الطوائف وفق خصوصية كل طائفة ومبادئها الدينية. نظام المِلل الذي اتبعته الدولة العثمانية قسّم لبنان إلى قائم مقامين، حيث تم منح الطوائف اللبنانية حقوقاً ادارية وتمثيلاً في مجلس إدارة جبل لبنان وهو أول محاصصة ادارية وسياسية لبنانية، هذه المحاصصة أعطت للعامل الخارجي الفرصة في إثارة النعرات الطائفية وإحداث الخلاف الطائفي بين أبناء البلد الواحد عبر تأجيج النفوس بين الطوائف ونشر ثقافة الكراهية بين هذه المكونات. أخذ التمثيل الطائفي في النظام السياسي والاداري اللبناني أبعاداً أكثر خطورة على التعايش السلمي اللبناني خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي فجعل من كل طائفة وحدة قائمة بذاتها اجتماعياً واقتصادياً وتربوياً وهو ماعكس نفسه خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت «51» عاماً في ظل استقطاب اقليمي ودولي غذا هذا الصراع وزاد من تعميق هذه العصبيات تأطير هذه الطوائف في تنظيمات حزبية نشأت على أساس طائفي وبدلاً من أن تذوب الطائفة في المكون الحزبي الكبير ذابت المكونات الحزبية في الطائفة وأخذ الصراع بعداً حزبياً وطائفياً في ذات الوقت. اتفاقية الطائف وعلى الرغم من تحقيقها انجازاً هاماً في وقف الحرب إلا أنها وعبر وثيقة الوفاق الوطني كرست مبدأ المحاصصة على أساس طائفي فتم توزيع الرئاسات الثلاث «الرئاسة الوزراء النواب» طائفياً وتم تقسيم الدوائر النيابية على أساس طائفي لتكشف الأيام سوءة هذه الاتفاقية فزادت حالة التشرذم للنظام السياسي والاجتماعي اللبناني وزاد التسابق بين الطوائف داخل الطائفة الواحدة على الظفر بالمكاسب السياسية والاقتصادية التي شرعتها اتفاقية الطائف ولم تنتهِ المحاصصة عند الرئاسات الثلاث والدوائر الانتخابية بل تعدتها إلى تمثيل طائفي في الوزارات والنظام الاداري بمختلف مستوياته والنظام العسكري. الأحداث الأخيرة التي شهدتها لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري أكدت حقيقة مشكلة النظام السياسي اللبناني وأزمته المزمنة عبر المراحل التاريخية التي مرّ بها لبنان، فهذا النظام الطائفي أخفق في إحداث دولة ديمقراطية قادرة وفاعلة وقائمة على الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية أمام القوانين بفعل التدخلات الخارجية التي تتصيد من الولاء الطائفي الذي يعلو على الولاء الوطني للوطن اللبناني. الأزمة الأخيرة أفرزت خارطة سياسية ربما أنها تشكلت من رحم المعاناة وربما أنها هي من فرملت اندلاع حرب أهلية جديدة فانقسمت النخب السياسية بين موالاة ومعارضة.. في الموالاة تواجد المسلم السني «سعد الحريري» والمسيحي الماروني«سمير جعجع، أمين الجميل» والدروز «وليد جنبلاط» وفي المعارضة تواجد المسلم الشيعي«حزب الله وحركة أمل» والمسيحي «ميشيل عون» والسني «عمر كرامي» والدرزي «طلال ارسلان» وهو مايعني أن كلا الطرفين الموالاة والمعارضة يتشكلان من كل الأطياف الطائفية. المفكرون اللبنانيون وصلوا إلى قناعات بفشل النظام الطائفي وكثير منهم - بمختلف انتماءاتهم الطائفية - متفقون على مبدأ إلغاء الطائفية في توزيع الوظائف الرسمية والحكومية بين المواطنين ضمن المؤسسات الحكومية وتأسيس مبدأ خلق الفرص أمام المجتمع بصورة عامة للتنافس ليصل الرجل المناسب إلى المكان المناسب وإحياء الأحزاب ذات الطابع الوطني التي تنطلق منه مبادئ الولاء للوطن وحفظ أمنه وحمايته وإضعاف الولاء الطائفي وهو ما طالب به هؤلاء في ايجاد نظام تربوي يعكس الأهداف العامة للهوية اللبنانية وزيادة الوعي لدى الأفراد وخصوصاً الشباب حول مخاطر التعصب الطائفي على سلامة المجتمع اللبناني. النموذج اللبناني في الصراع الطائفي الذي أدى إلى شرعنته وتنظيمه وفق مواد الدستور ووثيقة الطائف يضع صورة واضحة لمآسي النزق الطائفي أوالمناطقي أوالمذهبي وحتى السياسي الذي يغلف المناطقية والطائفية في مكونه الفكري. إلا أننا كعرب لم نستفد من هذه النماذج وهذه التجارب فرأينا كيف تكرر المشهد بصورة ربما أكثر مأساوية على الساحة العراقية ولم ننظر إلى مجتمعات ودول تتكون من طوائف واثنيات وقبائل وعشائر وأعراق مختلفة إلا أنها تتعايش مع بعض في اطار دولة واحدة نظامها السياسي لايقوم على أساس طائفي.. ولدينا نموذجان النموذج الصيني وهو صورة للنظام الاشتراكي والنموذج الهندي وهو صورة للنظام الديمقراطي ومن خلالهما نجد كيف تتعايش الطوائف والاثنيات داخل المجتمع الواحد، وبالتالي من الممكن تماماً أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية والأثنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة طائفة على الحياة السياسية وتقديم الولاء للطائفة بدلاً عن الدولة. نزوع العقلية السياسية والاجتماعية العربية إلى التمترس خلف الطائفية والمذهبية والمناطقية يرجع إلى تراث ثقافي يمجد العصبية بمختلف أنواعها، لذلك نجد أن أي نظام سياسي عربي مهما رفع من الشعارات الوطنية أوالقومية أوالاسلامية أو الأممية يتمترس خلف ممارسات تتسم بالمذهبية والقبلية والمناطقية. والتاريخ القريب والبعيد يقدمان نماذج لهذه الممارسات حتى في المجتمعات التي تتمتع بانسجام تام في العرق والدين واللغة وتتوفر لها كامل المقومات للتعايش السلمي والوئام المجتمعي فإن العقلية المناطقية والقبلية تعمل على نشر ثقافتها الكريهة في محاولة منها لجعل الولاء المناطقي والقبلي بديلاً للولاء الوطني. الآخرون جعلوا من التنوع الطائفي والاثني والمذهبي عوامل لتعزيز الثقافة الجمعية الواحدة وجعلوا منها عناصر اثراء للثقافة المجتمعية المعززة للوحدة الوطنية ونحن في المجتمعات العربية التي تشكل في اليمن صورة قد تكون أكثر قتامة من غيرها بسبب نرجسية أدعياء الثقافة والسياسة تخلق من التوافق الاجتماعي كل عوامل الهدم والتشرذم. كيف نعزز من ثقافة الوحدة الوطنية والولاء الوطني؟ ونسعى إلى ايجاد دولة القانون التي يتساوى فيها الناس جميعاً بالحقوق والواجبات بعيداً عن التمترس خلف ثقافة التشطي والتقزم في زمن البقاء فيه للكيانات الكبيرة.