كم هو جميل أن يرتدي الإنسان رداء الوطنية! كم هو قبيح أن يطرز في الخارج! كم هو جميل أن يتماهى تراب الوطن في وجدان أبنائه! كم هو قبيح أن يتخثّر النشيد الوطني في شرايينهم! لعلنا أمام قضية هامة ذات معانٍ دلالية بالغة التقديس تسمو بها الهامات ويقطن روادها محاجر التاريخ.. إنها التعبّد في محراب الوطن ونبوءة الوطنية بعيداً عن تلك الشعارات الكرتونية، التي تُرفع من قبل بعض الجماعات، والتي تهدف من ورائها إلى تحقيق منافع قد تعود بالضرر على الوطن سواء في المدى المتوسط أو القريب، خصوصاً والعالم يشهد أجواءً مناخية سيئة نتيجة السيطرة عليه من قبل أطراف أحادية رأسمالية. على كل، هنالك أشخاص في المجتمعات العالمية والعربية يدينون بالديانة النيرونية التي من خلالها تم إحراق مدينة بكاملها، عندما أقدم رسول الخراب نيرون على احراق مدينة روما مدعياً الوطنية، لتمر بنا الأيام حتى نفاجأ أن في مجتمعاتنا أناساً من روثة تلك السلالة، لا يهدأ لهم بال إلا وقد رموا بأوطانهم على شرفة البركان، بانتظار الكارثة التي ستحصد كل ما هو جميل في هذه الأوطان، ليعود بها الحال إلى أزمنة جيولوجية قد يعقبها زمن الكمبري أو الزمن الأول. فمفهوم الوطنية كما عرّفها مصطفى كامل يتمثل بالتالي :«شعور ينمو في النفس ويزداد لهيبه في القلوب كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه». الحقيقة أننا بالوقوف على هذا التعريف نجد أنه ذو نكهة خاصة لا يتذوقها إلا كل إنسان يدرك مدى أهمية ارتباط وجوده بنياط الوطن. فمن خلال هذا التعريف يمكننا تسليط الضوء على شخصيتين متقابلتين : الأولى : الشخصية الوطنية : أصحاب هذه الشخصية يكون أمن واستقرار الوطن بالنسبة إليهم أغلى من النفس والأهل والمال، يقدمون المصلحة العامة على كل شيء، باذلين في سبيل ذلك كل ما من شأنه عزّة وسؤدد الوطن الذي ينتمون إليه. الثانية : الوطنية الشخصية : أصحاب هذه الشخصية - إن صح التعبير - تفتقر فيهم خلايا الانتماء إلى الوطن وقد تكون معدومة، هدفهم الأول والأخير هو المصلحة الخاصة وتحقيق أهوائهم وشهواتهم المختلفة ولو كان في سبيل الحصول على ذلك المقايضة بأمن الوطن. من خلال ما تقدم ينبغي لنا التطرق إلى محور مهم ذي أبعاد سيادية يتمثل بعملية الارتباط بالخارج الذي يندرج ضمن اختصاصات أجهزة الدولة من خلال القيام بإجراء التبادلات الدبلوماسية بينها وبين الأطراف الدولية وفقاً لاستراتيجيات تحددها مسبقاً، حفاظاً على سيادتها وحرصاً منها على مواصلة السير في طرائق التنمية وضرورة الانفتاح على الآخر وفقاً لمتطلبات الأوضاع الاقليمية والدولية. أما أن تأتي خلايا داخلية سواء كانت اعتبارية، حزبية، اجتماعية، بتشييد جسور تواصل مع الخارج متجاوزة بذلك الاختصاص الاعتباري للدولة التي ينتمون إليها، فإن هذا الأمر بحد ذاته قد يجعلهم يمرون بمراحل خيانة بصورة تدريجية، ابتداءً من مرحلة الجاسوسية إلى خلخلة الأوضاع الداخلية ومن ثم تحقيق أهداف شيطانية تخدم تلك الأطراف المعادية، ولو كان ذلك على حساب الدين أو الوطن أو العروبة، باستثناء تلك العلاقات الأخوية العلنية المحدودة التي تتم في محيط عالمنا العربي، إضافة إلى عمليات التداولات التجارية المشروعة التي تقام في ظل العولمة التي استطاعت تخطي جميع الحواجز السيادية للدول.. فمعطيات التقصير تجاه القضايا الوطنية ستؤدي إلى نتائج وخيمة يعود وبالها على الجميع. فيجب علينا أن نتنبه إلى ضرورة المحافظة على وحدتنا وتلاحمنا كأفراد شعب واحد بعيداً عن المماحكات الطائفية والحزبية وأن نقف جميعاً في مواجهة ثقافة التمزيق والتفرقة التي ينادي بها البعض من المصابين بداء القصور الفكري والوطني والديمقراطي، أياً كان انتماؤه السياسي أو الاجتماعي. فالوطن للجميع ومقدار الوطنية يتمثل بمقدار التضحية، أما أولئك الذين يجعلون الوطنية حكراً على شريحتهم السياسية أو انتمائهم العقائدي فنقول لهم كما قال الشاعر : وكل يُدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا فالأمر الذي ينبغي لنا جميعاً كمؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات عامة عمله هو لم الشمل والتصدي لدعاة التفرقة والعمل على مواصلة السير في عملية التنمية الشاملة التي تشهدها البلاد، والحرص على نشر الثقافة الوطنية عن طريق المحاضرات والندوات ووسائل الإعلام، وإقامة الجلسات الروحانية في محراب الوطن مرتلين آيات النشيد الوطني، فمعيار التقوى الوطنية يقاس بالأعمال بعيداً عن الفلسفة الديماغوجية «استغلال العواطف». فالفرق بين مفهوم المواطن ومفهوم الإنسان في تراتيب التنشئة الاجتماعية كما ذكر الدكتور محمد رضا هو فرق بين «الواقع» و«المثال»، ففي طلب المثال «يكون في مقدار الناس أن يتفلسفوا، أما في طلب الواقع فيكون في مقدورهم أن ينجزوا وأن يتثبتوا من إنجازهم بقياس ذلك الإنجاز وتمحيصه».