ما إن فتح عينيه مستقبلا ً جدار يومياته المنتصب كحقيقة أبدية أمام ناظريه حتى غاب في الجدار و هو لا يدري إن كان يتأمّل أو مازال محكوماً بتداعيات سلطان النوم . حدث ذلك في صباح يوم شتوي تناغم مع هطول أمطار غزيرة استمرتْ أياماً، وأفضت إلى عوالم لم تكن مألوفة، فلقد تقافزت نبتات البراري و تسامقت بأفرع مستطيلة، و تحمّلت بهاء من لهب أزرق وزهوراً رمادية أشبه ما تكون بالأثير المُترع رطوبة ورذاذاً، حيث السماء و الأرض، والهواء والماء، مرايا تشع بضياء خافت، وتتألق بأصوات كبوح المطر . تداعت هذه الخواطر السديمية معه في ذات الوقت الذي توسعت فيه حدقات عينيه والتمعت بمُشاهدة مغايرة . لم يكن الجدار المنتصب أمامه سطحاً فحسب ، بل كان مهرجاناً لملايين النقاط المنتشرة كما لو أنها مجرة، فالمجرة ليست إلا تشكيلا ًنورانياً من ملايين الشموس المترافقة مع مليارات الكواكب، المترافقة مع تريليونات الأقمار، وهكذا كانت المجرة متوالية تتصاعد تكابراً إلى ملايين المجرات، وربما تشكّلات أخرى تستعصي على الخيال قبل الإدراك . متوالية اللامتناهي في الكبر تتوازى مع التصاغر اللا متناهي، فلا حدود لعوالم الذرة ولا معنى كمّي ودلالي لعالم البوزيترون و الميزوترون، فالعوالم كلها تتجوهر في أصغر الوحدات المعروفة، حتى إن الواحد منا يرى نفسه جرماً صغيراً و فيه كل تلك الأبعاد . و من نقطة السطر الذي أكملناه للتو نكتشف أن كل ما قلناه و ما لم نقله، بل كل الموجودات و أعيان الممكنات ، وكامل الهيئات المنتشرة و المرئية بعدسات أعيننا تتأسس على النقطة. و كل نقطة ترمز لجوهر الكلام كما ترمز للصورة ، فلا صورة و لا هيئة و لا محل هندسي ولا طريق و لا خط و لا آلة و لا أجساد و لا تشكلات إلاّ و كانت النقطة منطلقها و مآلها . و بنفس القدر لا كلام و لا نص و لا جملة و لا قصيدة و لا بيان و لا بديع إلا ّ و كانت النقطة مصدرها بوصفها منطلق الكتابة، وأيضاً منطلق الكلام .. كان الرائي محمد بن عبد الجبّار النفّري مُتقمّصاً حالة النقطة ليس بالمعنى الكتابي، بل .. و بالمعنى الصوتي ، ذلك أنه جيّر الكلام على الحق ، و استرخى هو في مقام الصمت، فكان يسمع و لا يتحدث ، يتلقّى و لا يقول، ينقل عن الحق بلسان الحال، و لا يدّعي أنه قال . هكذا : «وقال لي» و «أوقفني» المعنى أن الواصل يرى في الصمت أعمق دلالة للكلام ، و في النقطة أفضل تعبير عن الحال و المآل .