أما أنا فعندما تنطفئ الكهرباء ليلاً.. فإنني أحبو على رجلين ويد واحدة، باتجاه النافذة.. لأن اليد الأخرى أهشُّ بها موجات الظلام حتى لا أصطدم بشيء فتكون الكارثة.. ويدي بالنسبة لي مثل بوق السفينة الذي ينفخ فيه البحارة ليلاً لتحديد موقع ارتجاع الصدى لتجنب الارتطام بالجزر وزوائد البحار. باتجاه النافذة أهرع لأحملق ما استطعت في فناء الكون أبحث عن ذاتي لأجلس معها قليلاً.. أتفقد أحوالها.. فكم أشعر بالجفاء لها وأنا أتركها لأرتمي في صخب الحياة وضجيج التكنولوجيا، فقدري أن أكون مخلوقاً في الزمن المعاصر، حيث لا خلوة مع النفس ولا ساعة للصفاء ولا لذة للهدوء. الحياة تأخذنا كثيراً.. كل وسائل الترفيه وخدمة الإنسان كما يحسبونها أحكمت القبضة علينا فلم نعد نعرف للحرية لوناً ولا طعماً ولا رائحة. نحن مأسورون بإسار الدهشة التي تنفثها «الصورة» في العيون.. نتقوّس في الليل كله أمام عوالم من المشاهد والأحداث والرسائل التلفازية التي هي في الحقيقة تستهدف إنساناً حديدياً قادماً يدار بالريموت كنترول، وليست لنا نحن حملة المشاعر والقدرات المحدودة. لماذا لم يعد الليل ليلاً؟!.. لماذا نقتحم الضوء والضجيج في غير مكانه، ومدننا تتقدم كل يوم في توديع مظاهر الهدوء والسكينة الليلية، وأجسادنا لا نعطيها فرصة للراحة إلا عندما تفقد القدرة على السيطرة.. عندما تتعطل قدرة الإصبع في الضغط على «أزرار» الريموت كنترول.. عندما العين تمزج الألوان وتتشظى أمامها الصورة.. عندما الأذن تتنكر للصوت الجميل مشغولة بالصفير والصراخ. من منكم ينتصر للظلمة وقد حاصرتها الأضواء إلغاءً لمبدأ التعايش الثنائي الذي يقوم عليه نظام الكون «الليل والنهار، الظلام والضياء، النوم واليقظة». العودة إلى النفس.. الخلوة مع الذات لتحديد موقعها ومعرفة ما الذي تريد.. نريد أن نفكر لا أن ننفعل فقط.. نريد أن نتحصل على لذة العيش التي وجدها أبو العتاهية الشاعر العباسي، حيث ملّ ضجيج المدينة وقهقات السامرين وحنّ للوحدة داخل كوخ ترابي مع كوز ماء بارد وكسرة خبز يابسة بعيداً عن الفوضى والزعيق. نريد كل ذلك لا أقصد الكسرة اليابسة وعلى مؤسسة الكهرباء أن تساعدنا في الوصول إليه بالإفصاح عن مواعيد مؤكدة للانطفاءات، فالحوار مع دخائل النفس في ساعة العتمة في مكان الخلوة يحتاج إلى تقنين وفرض مواعيد مسبقة.