لم يجد مثقفو اليمن بداً في زحمة فوضى السياسة من تكرار قول مأثور يقول: «لا تسأل ماذا قدم الوطن لك، بل ماذا قدمت أنت للوطن..»! فالكل يتمنطقون بالسياسة، والكل يسمون أنفسهم «ثوريين» والكل يتبرأون من الفساد ويلعنون المفسدين، والكل يمثلون أدوار «المصلحين»، ولم يعد من سبيل أمام نخب الرأي والثقافة غير أن يضعوا «الكل» في سلة واحدة لبدء الفرز، وتعرية المقنّعين بالفضيلة، وشعارات السياسة «الثورية» ، و«الانقلابية»، و «الإصلاحية»... إلخ. استوقفني سؤال وجهته مذيعة «الجزيرة» في برنامج (بلا حدود) إلى أحد كبار رجال الأعمال اليمنيين، الذي يرأس لجنة حوار أحزاب المشترك المعارضة، حول ماذا قدم لشعبه، وإن كان شق طريقاً، أو بنى مستوصفاً، وهو الرجل الثري الذي يدعو «للانقلاب» باسم فقراء اليمن والمظلومين، والكادحين والأيتام والأرامل..!. ورغم أنه حاول التنصل من الإجابة مراراً، إلاّ أن المذيعة ظلت تطارده بالسؤال، كما لو أنها كانت تريد فضح حقيقة أنموذج «الثوريين» العرب المتسلقين على أكتاف الفقراء واليتامى والمظلومين.. وكانت موفقة جداً في إيصال رسالتها، حيث إن رجل الأعمال الثري جداً، و «الثوري» جداً، لم يجد في جعبته شيئاً خدم به شعبه سوى خطاباته الحماسية، والمشاركة تحت مظلة إحدى الجمعيات الخيرية بتقديم المساعدات خلال الفيضانات التي اجتاحت حضرموت ، أسوة بمئات الخيرين العرب والأجانب الذين لم يبخلوا على اليمن بمساعدات الإغاثة، بمن فيهم البلدان غير الإسلامية. لم أكن أعرف تلك الحقيقة، وتمنيت حينها لو بقيت على جهلي بها، فكم هو مؤلم أن نكتشف أن بعض أثرى أثرياء البلد بخلوا على شعبهم حتى بجمعية لرعاية الأيتام، أو مساعدة الأسر الأشد فقراء، أو مساعدة الطلاب المعسرين لإكمال دراستهم الجامعية، في الوقت الذي تكون منظمات غير إسلامية هي التي تقطع مئات الأميال عبر القارات لمد يد العون لفقراء اليمن وفتح المراكز التعليمية والصحية والاجتماعية وغيرها. قبل أيام قام رجل الأعمال اليمني عبدالله بقشان بالتبرع لجامعة عدن بمئات الكتب والمراجع التي قدرت قيمتها بعشرات الملايين من الريالات، والمخصصة لكلية الطب، في نفس الوقت الذي يقوم بتشييد مبنى كبير للجامعة بمئات الملايين، فقد أخبر المشاركين في حفل افتتاح مكتبة كلية الطب أنه يريد الاستثمار في البشر، من خلال الخدمات التعليمية التي يقدمها للطلاب فيسهل تعليمهم، بما يعود على وطنهم وشعبهم بخبرات وطنية تؤمن الرعاية الصحية لأجيال متعاقبة.. ومع أن هذا الرجل، ومثله هائل سعيد أنعم، لا يكلون عن التبرع بالمشاريع الخدمية والتنموية إلا أنهم لم يتحدثوا يوماً كأوصياء على الشعب اليمني، ولم يروا أنفسهم قد أصبحوا فوق الجميع ، ومن حقهم عزل المسئولين وتعيين الزعماء.. فما أعظم الفرق بين رجل أعمال يزج الشباب للشوارع للتخريب والفوضى بمواجهة الرصاص، وبين رجل أعمال ينفق مئات الملايين من ثروته لشراء كتب علمية للشباب ليصيروا أطباء ومهندسين تتفاخر بهم أسرهم وشعبهم.. فهذه هي الثورة الحضارية يا أبناء اليمن، وهؤلاء هم قادتكم الحقيقيون الذين يرجون عزكم وكرامتكم ورقيكم.