من فعل هذا برمضان؟ من الذي حوله من شهر روحاني إلى شهر مادي؟ من الذي طرده من المسجد وأجبره على الإقامة في أسواق الأقمشة والملابس وأسواق اللحوم ومختلف أصناف الأغذية؟ رمضان شهر التوبة والغفران، أقل من 27ساعة تفصلنا من هذا الشهر الكريم الذي يفترض أنه يمثل كفة «الروح» في ميزان كفته الأخرى، 11شهراً مادياً.. وهو كان يعني الهروب ثلاثين يوماً من جحيم الهم الاستهلاكي وأثقال المشاغل الحياتية وأسواق الربح والخسارة واللهث وراء متطلبات الحياة ووراء الثروة وشهوات الجسد والقلب والعقل إلى جنة المسجد ومسحة الشفاء والطمأنينة التي تمنحها الصلوات والدعاء وتلاوة القرآن بتدبر وتأمل حيث يكون ذلك العزاء والملاذ لمن يشعر بإخفاقات الحياة ويتألم للفروقات التي تفصل بين عوزه وفقره وبين الغنى الفاحش لدى البعض، وتذكره بأن الرابح الحقيقي هو من يصبر ويقنع بما قسم الله حتى ولو لاقى شظف العيش مادام أن ذلك ثمن الالتزام بالقيم الدينية والمثل العليا ومن أجل الجزاء الأخروي.. في حين أن الثراء الدنيوي قد يكون وبالاً على صاحبه وخسارة حقيقية وطامة كبرى إذا ما كان مصدر هذا الثراء هو الغصب والاحتيال والفساد والرشوة. كما أن رمضان كان يعني بالنسبة للميسورين محصلة لاختبار نسبة الهامش الروحي الذي لازالوا يمتلكونه في ظل طغيان المادة وحسابات البورصة، ويمثل فسحة للمراجعة وإعادة تقييم المسار وتغليب جوانب الخير ومضامين التكافل والتراحم والتعاون. أما اليوم فقد بات الشوق لرمضان مشوباً ب«الخوف» من استحقاقاته المادية نتيجة العادات الاجتماعية المتمثلة بظاهرة الهم الاستهلاكي المتزايد والتي أضحت تطبع رمضان بطابعها وتغير اتجاهاته نحو السوق وليس المسجد. وطبعاً الجميع يتوق لهذا الشهر الكريم ولصيامه وقيامه والكل يتضرع لله عز وجل أن يمنحه التوفيق ويكون بالنسبة له فعلاً وجزاءً «أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار» لكن في المقابل فإن الأغلبية وهم ذوو الدخل المحدود والمعوزون، باتوا يستقبلونه بهم وغم، غارقين في التفكير في كيفية الحصول على قوة شرائية جبارة تجاري احتياجات هذا الشهر الذي أصبحت نفقاته تعادل نفقات شهور عديدة. حيث إنه بدلاً من أن يكون الصوم محصلة لإراحة المعدة والأجهزة المصاحبة لها في الجسم من ضغط الوجبات وتخمتها، أضحى شهر الصوم ممراً مفتوحاً إلى الشراهة واقتناء الوجبات الشهية بأصنافها المتنوعة وبات ما يتناوله الصائم في رمضان أضعاف ما يتناوله في غير رمضان. وعلى صعيد التجار فإنه عوضاً عن أن يكون الشهر الكريم حافزاً للقناعة في الربح والمكسب نجدهم يشعلون نار الأسعار والاحتكار بصورة جنونية ودون خوف من وازعٍ ديني أو رادع دينوي. وإذا كانت ضمائرهم لن تؤنبهم فإن الواجب أن تضطلع الجهات المعنية بدورها لما فيه الصالح العام ولما يمكّن الناس من التزود بروحانية شهر التوبة والغفران دون قلق أو هموم.