من الصعب علينا مهما حاولنا أن نتخيل حجم الألم والمعاناة التي تكتنزها أم، وما تحمله من مرارة موجعة في قلبها الكبير، حيث تجد نفسها ضحية ابنها، زرع كبدها وثمرة حياتها وأملها المرتجى، ابنها الذي قاست من أجله الكثير من الأوجاع والآلام قبل أن تراه رجلاً يُعتمد عليه.. فكم سهرت لينام، وكم جاعت ليأكل، وكم تعبت ليرتاح، وكل أملها من الحياة أن تراه يكبر أمامها ويصبح سندها في كبرها وحصنها الآمن الذي يعصمها ويمنع عنها كل ما يكدر صفو عيشها أو يجرح شعورها. فمن ذا يرضى أن يسيئ لهذه الإنسانة التي وضع الخالق الجنة تحت قدميها، وبأي ضمير يعيش من يتسبب بالحزن والأسى «لست الحبايب» فمن هي «الحجة زعفران» وما هي مأساتها التي ينوء بحملها الرجال؟!. ببساطة هي مأساة أم غدر بها الزمان، وخانتها الأيام، وعلى يد ابنها «مجيب» تجرعت كؤوس المر والأسى، وطوال ثلاث سنوات هي عمر مأساتها رأت من الحزن والهوان ما أنساها كل لحظات الفرح والسعادة والعيش الرغيد طوال سنوات عمرها. أما اليوم فقد تبدل الحال غير الحال، فلم يعد لها من ماضيها الجميل غير صدى الذكريات تؤنسها في حاضرها المؤلم وتواسيها في حزنها الطويل وحياتها الموحشة. فلم تكن الحجة زعفران تتوقع أبداً أن ابنها الأكبر «مجيب» الذي أحبّته وفضّلته على العالمين سيكون سبباً في مأساتها وتعاستها وسبباً في إصابتها بذلك الجرح الذي لا يبدو أنه سيندمل، وسيبقى ينزف وجعاً إلى آخر عمرها، فهي التي ائتمنته على ثروة اخواته واخوانه، ومنحته ثقة مطلقة لا يشوبها الشك؛ يقوم على إدارة المال والتجارة والعقارات والبيع والشراء.. إلخ. وفوضته بموجب وكالة شرعية وقّع عليها جميع اخواته وإخوانه ليكون الآمر الناهي والسيد المطاع بعد وفاة والده - رحمه الله - والذي ترك لهم من متاع الحياة الدنيا ما يسترهم إلى نهاية أعمارهم إن أحسنوا إدارته وحافظوا عليه. فما المانع أن يكون ابنها الأكبر عزاءها في فقدان زوجها، وهو الذي عمل إلى جانب والده منذ صغره ويمتلك الخبرة في الأعمال التجارية، أو هكذا اعتقدت؟!. اليوم كل شيء تبخر كأن لم يغنوا من قبل، حتى البيت الذي تسكن فيه في حي دي لوكس بتعز قد تم بيعه من قبل ابنها بموجب الوكالة التي بيده ودون علمها وبثمن زهيد لا يتناسب مع موقع البيت وحجمه ومواصفاته؛ ولأن الذي اشترى البيت يمتلك المال والنفوذ لم يفلح لجوؤهم إلى القضاء في إبطال البيع أو إعادة النظر في الثمن الذي تم به البيع وإبرام الصفقة بسرية تامة لم تنكشف إلا بعد ستة أشهر وثلاث سنوات هي فترة التقاضي؛ قالت إنها عاشتها في خوف ورعب دائمين، وتهديدات وتهجم ومحاولات اقتحام متكررة كان آخرها الأسبوع الماضي حين قام الجنود بمحاولة كسر باب الشقة لإخراجها هي وابنتها البكماء وزوجة أحد أبنائها، واكتفوا بكسر باب الحوش وأخذه معهم دليلاً على تنفيذهم المهمة!!. الحجة زعفران، رغم الظلم الذي لحقها لا تمانع أبداً من تسليم البيت لمن اشتراه مادام ابنها، أحب الناس إليها، قد رضي لها هذا المصير، وكتب لها هذه النهاية المأساوية، ولكنها تأمل لفتة إنسانية لها ولابنتها البكماء التي لم تسلم أيضاً من أن تطالها يد أخيها ويسلبها كل ما تملك من ذهب، وتحافظ على كرامتها وتمنحها فرصة الخروج دون التشهير بها وإن كانت لا تعرف إلى أين وعلى كيف خروجها، وما ذنب هذه البكماء التي لا حول لها ولا قوة لتُحرم من حقها الشرعي من ميراث أبيها؟!. الحجة زعفران اختتمت حديثها المليء بالدموع؛ قائلة: إن حبها وخوفها من حدوث أي خلاف بين أبنائها هو سر ضعفها، وهو الذي أعماها عن رؤية الحقيقة رغم وضوحها لتتدارك ما يمكن تداركه. اعتراف جاء متأخراً جداً ولسنوات، وبعد أن دفعت هي وبناتها وأبناؤها الآخرون الثمن غالياً. وصدق رسول الإنسانية الذي قال: «ارحموا عزيز قوم ذل» فهل تجد هذه المرأة المسكينة وابنتها رحمة من بعيد بعد ما جار وقسا عليها القريب؟!.