لن أكون مبالغاً إذا قلت: إن التمرد في صعدة والتخريب في بعض مناطق المحافظات الجنوبية قد كشفا من بين أشياء كثيرة، عن أكبر عملية تزوير للثقافة في زماننا لقد اتضح أن الأحزاب القومية لم تكن وحدوية والاشتراكي ليس له علاقة بالاشتراكية بالمعنى المتعارف عليه للاشتراكية. وأن الأحزاب الإسلامية غارقة في الوهم وتنام وتحلم أن تصبح وقد أمسكت بزمام الخلافة الإسلامية، والسياسيون الذين شغلونا طيلة ما يقرب من نصف القرن لم يكن لهم علاقة بالواقع المعاش. إنها إذًا خدعة ووهم سيطر على مخيلة كل هذه الأطراف طوال هذه الفترة فلا النشيد الوطني حصن العلم مرفرفاً فوق ساريته ولا شعارات بالروح بالدم صنعت مشاريع تخدم التنمية، إننا أمام قضية تزوير التاريخ بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى هذا التزوير تقوده المصلحة إلى التبرير الأيديولوجي تارة والعصبوي تارة أخرى. لقد خُدع هذا الشعب من قبل بعض الأحزاب السياسية التي صورت الديمقراطية وكأنها خالية من العنف والقسر، وأن طريقة تنشئة أعضائها مبنية على الحب والحرية، وتبين مؤخراً أن الصورة مغايرة للواقع تماماً، فحياتنا مليئة بالقسوة والعنف، وحقوقنا مستلبة. إن تزوير التاريخ أصبح تقنية متقدمة لدى أحزابنا السياسية حتى صعب علينا التمييز بين الواقع والوهم، بين الحقيقة والأسطورة لننظر إلى أحزابنا التي تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لن نجدها سوى تسلط بيروقراطي، ترعرعت فيها الفوارق الطبقية. لقد جاء 22مايو ليؤسس لتعدد في خيارات الأفراد، لكن هذه الأحزاب عبّرت عن خياراتها من خلال البيروقراطية المكتبية والدليل على ذلك أن ما يجري في صعدة وفي بعض المناطق الجنوبية يدل دلالة واضحة على أن هذه الأحزاب لم تشتغل على مشروع ثقافي يجسد الولاء الوطني، فالفرد عند هذه الأحزاب ليس حراً في اختياره وإنما لقادة هذه الأحزاب الذين ينوبون عنه في التعاملات والمساومات مع الحكومة أو مع الأحزاب الأخرى، بحيث يكون المجتمع كله في المحصلة النهائية عبارة عن مجموع المصالح والمساومات والقرارات التي يتخذها هؤلاء القادة. والمطلوب في الوقت الراهن أن نتعامل مع السياسة بوصفها ثقافة عليا، بمعنى أن تحل الثقافة محل الإيديولوجيات المتصارعة في الساحة، ونحن بأمس الحاجة إلى ذلك خاصة بعد ما استقر في اللاوعي الجمعي أن الإيديولوجيات هي تعبير عن مصالح الطبقات الاجتماعية كيف يمكن تفسير حالة الطبقات الاجتماعية مع تصاعد وتيرة العنف في أكثر من مكان وهذه الأحزاب واقفة بلا ذاكرة. أعتقد أن الحزب الاشتراكي بات لزاماً عليه أن ينحل لأن الطبقة العاملة لم تعد بحاجة إلى الاشتراكية والإصلاح كذلك لأن المؤمنين لم يعودوا بحاجة إلى وسيط بينهم وبين الله. أما القوميون فليعتذروا من كل الطوباويات التي رفعوا شعارها، فلم تعد ماركة قابلة للتسويق وأنا أدعوهم إلى ذلك لأنهم ينطلقون من أيديولوجيات محدودة خاصة بأشخاص ولم يمتلكوا بعد الأيديولوجية العامة التي تتمثل بمجموعة من المبادئ السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعطي للنظام الاجتماعي هوية. إن هذه الأحزاب خلقت واقعاً مشوهاً فكلما ضاقت المسافات بين الأمم وتقاربت في الزمان، تفتتت هذه الأحزاب وفتّت معها وطنها وتحول إلى مافيات تتميز بشرعية الوضع القائم، فلست أدري كيف تتحدث هذه الأحزاب عن أيديولوجياتها في الوقت الذي تنشر المجاعة والأوبئة والحروب والعنف وهي مستكثرة حتى إدانتها. الاتحاد السوفيتي تخلى عن الاشتراكية والقومية أثبت التاريخ أنها عطلت التنمية وأعاقت الحريات ومشروع الدولة الإسلامية جسدته أفغانستان والصومال، فماذا نريد بعد؟ إذا كانت هذه الأحزاب تمتلك من العقلاء فعليهم أن يركزوا على مفهوم الأمن الإنساني المتمثل بتوفير الغذاء والرعاية الصحية والسلامة الجسدية والنفسية ؟ أي تأمين الحرية من الخوف والحاجة والحرية في مقدرة أفرادها على اتخاذ القرارات التي تهمها، وعلى الدولة أن تقف أمام التحديات الرئيسية التي تواجه الإنسان اليمني بمسؤوليته.