يمثل العنف البديل الأسهل، وإن لم يكن الأفضل للإقناع والحوار أو للسياسة نفسها، وهو يجد في غياب الحوار بيئة مناسبة لينمو ويتكاثر..، وشواهد الحال في بعض محافظات جنوب الوطن، وصعدة تمثل دليلاً على مايمكن أن يكون عليه الحال عند قطع الطريق على مساعي الحوار، ورفض التفاوض، وتغليب لغة العنف وأدواته، وعلينا أن نقر اليوم بحقيقة أن : «الحوار السياسي الجاد والصادق بين جميع القوى والفاعلين السياسيين هو البديل المناسب لتقليص مساحة العنف في السلوك والممارسات السياسية في مجتمعنا اليمني.. وقطع الطريق على أي تدخل أجنبي غير مرغوب في شؤوننا الداخلية». فهل تتوفر الظروف المناسبة لنجاح الحوار بين الأطراف السياسية اليمنية ؟ وهل نية الأطراف صادقة في الخروج بنتائج إيجابية للحوار ؟ بداية، نؤكد أن جزءاً كبيراً من الإشكالية يكمن في افتقاد تربيتنا وبيئتنا الوطنية إلى العناصر الإيجابية التي تعزز ثقافة الحوار، أو تساعد على جلوس الأطراف المتصارعة إلى طاولة الحوار، وأغلب مفردات ثقافتنا الشعبية، وخطاباتنا السياسية تشجع العنف والإقصاء وتهميش الآخر أو التقليل من شأنه، كما أن بعض الأطراف السياسية في مجتمعنا وهذا الجزء الأهم من مشكلتنا في الوقت الحاضر - تبدي غير ماتبطن، وتقول عكس ماتفعل، فهي تشجع العنف وتدعو له ضمناً في خطاباتها وتجمعاتها، في حين أنها تدعو صراحة إلى النضال السلمي، والحوار والتصالح والتسامح السياسي والاحترام المتبادل بين الأطراف السياسية. ونحن جميعاً نمارس في حياتنا وأحاديثنا بعض مظاهر العنف اللفظي والرمزي، بقصد أو بدونه. كما أن عقدة التفرد أو إدعاء الريادة، وامتلاك الحقيقة كاملة، والتشكيك في قدرة الآخرين على امتلاكها أو حتى جزء منها، يعد دليلاً على أننا قد نقع في مزالق العنف الرمزي، ونمارسه في علاقاتنا مع الآخرين. ونعتقد أنه سيكون من الطبيعي الإشارة إلى أن غياب عنصر الثقة بين الأطراف السياسية سيغدو سبباً ونتيجة في نفس الوقت لحدوث مثل هذه الممارسات، التي نقوم بها جميعاً بوعي حيناً، وبدونه في أحيان كثيرة .. لاسيما أن بعض هذه الأطراف قد قطعت شعرة معاوية منذ زمن ليس بالقريب، كما أنها لجأت إلى أساليب وممارسات تثير الريبة والشك، وتزيد من مساحات عدم الثقة لدى باقي الأطراف، وبالتالي فإن مثل هذه البيئة ستجعل أي مسعى للحوار الجاد والمسئول، أو التفاوض السياسي الذي يحرك المياه الآسنة في محيط السياسة اليمنية أمراً مستبعداً، أو في أحسن الأحوال مضيعة للوقت ليس إلا. وعلى افتراض أن هذه الأطراف تجاوزت هذه العوائق، واقتنعت أخيراً بأهمية الحوار، وبضرورة الجلوس إلى طاولة واحدة مع باقي الأطراف الأخرى الفاعلة في المشهد السياسي اليمني، وهذا أمر يصعب التكهن بحدوثه في مجتمعنا اليمني، في ظل المعطيات والوقائع المتوفرة، وبسبب التطورات التي شهدتها الأحداث في مجتمعنا شمالاً وجنوباً، والشروط التي وضعتها بعض الأطراف للدخول في الحوار، والمواقف السلبية التي عبرت عنها بعض الأطراف السياسية من دعوة الرئيس للحوار في تناقض صريح مع الدعوة إلى الحوار الوطني التي وردت في مبادرتها التي أطلقت عليها «مشروع رؤية للإنقاذ الوطني»، والتي تضمنت : «اعتماد الحوار القائم على أساس التسليم بالشراكة الوطنية بين كافة القوى والأطراف للوصول إلى رؤية موحدة، وفهم مشترك لطبيعة الأزمة الراهنة، والحلول المقترحة لمعالجتها، والآليات الكفيلة بتحقيقها على واقع الحياة اليمنية عامة.. » وكأن المهم في نظر بعض هذه الأطراف ليس الحوار، والنتائج التي يمكن أن يسفر عنها، وما ستجره على الوطن والعملية السياسية برمتها من انفراج وحلول سياسية يمكن أن توقف عجلات العنف عن الدوران، بقدر مايهمها أين سيتم إجراء الحوار ؟ وبمبادرة ممن ؟ وتحت قيادة من ؟ ولأي أغراض يتم الحوار ؟ نقول على افتراض جلوس هذه الأطراف إلى طاولة الحوار، وجديتها في البحث عن حلول لأزماتنا المتلاحقة، فإننا نضع فيما يأتي بعض النقاط التي ربما يرى فيها المتحاورون مايستحق النظر فيه، أو مايمكن أن يشكل أساساً لانطلاق بعض جولات الحوار، ولبناء جسور من الثقة بين المتحاورين : - ضرورة الاتفاق على أن الحوار يبقى السبيل الوحيد الأنجع والأكثر أمناً لمناقشة جميع القضايا الخلافية، مهما تباينت المواقف والرغبات والمصالح السياسية، وعلى مرجعية الدستور، والقوانين، والاتفاقات السياسية السابقة أو اللاحقة الموقعة بين جميع الأطراف. - ضرورة أن يحضر الجميع إلى الحوار بقلب وعقل منفتحين، لا بنية تسجيل الحضور والمواقف وتحقيق بعض المكاسب السياسية العاجلة، أو تحميل طرف المسئولية عما حدث من أزمات، وأن يتم النظر إلى الموضوعات نظرة وطنية عقلانية وشمولية، بعيداً عن الروح المناطقية والانفعالية أو المكاسب الآنية الشخصية والحزبية الضيقة التي عطلت جولات الحوار السابقة، وعلى قاعدة أولوية تطويق وحل الأزمات الوطنية، وأن الجميع متضامن في الربح أو الخسارة، كما أن التفاوض السياسي يفترض التنازل المتبادل بين الأطراف المتحاورة، ولايمكن لطرف أن يجني مكاسب أكثر من باقي الأطراف. - أن يؤمن جميع أطراف الحوار باستحالة امتلاك طرف لوحده مفاتيح حل أو تشخيص الأزمات الوطنية المتعددة، وأنها تحتاج إلى رؤية وجهود ودعم جميع الأطراف الوطنية دون استثناء، حتى تكتمل الصورة ويتحدد المشهد برمته من جميع الزوايا والأركان، بما يمكن من تشخيص جميع أبعاد الأزمة بدقة وموضوعية وشفافية، حتى نحدد نصيب كل طرف من المسئولية عن نشوب تلك الأزمات، أو عن إعاقة تطويقها، ليس بنية الإقصاء أو تصفية الحسابات، ولكن بقصد أن يتم الاتفاق على معالجة جميع الملفات القديمة بنية إقفالها نهائياً، وعلى قاعدة المصلحة الوطنية العليا، ودفع المضار الجماعية والوطنية مقدم وجوباً على جلب المصالح الفردية والحزبية، وأن الجهود الوطنية يجب أن تصب في اتجاه تطويق هذه الأزمات لا زيادة إشعال فتيلها، وهي مسئولية السلطة والمعارضة على حد سواء. - ضرورة أن نقر جميعاً بأن مجتمعنا يعيش أزمات وطنية وسياسية خانقة، لا مجال لإنكارها أو التغطية عليها أو التقليل من شأنها، وهي تتجسد في ترافق وتزامن عدة أزمات : الهوية وضعف المشاركة السياسية، وغياب التوزيع العادل للموارد بين المحافظات والمديريات، وتعذر التكامل، والاندماج، وهي أزمات طبيعية قد يمر بها أي مجتمع يمر في مرحلة انتقالية للإصلاح أو التطور السياسي، وأن استمرار بعضها ناجم عن إتباع بعض السياسات الخاطئة في المعالجة، أو نتيجة التطورات والأحداث والظروف التي عاشتها دولة الوحدة. وهذه الأزمات تحتاج إلى إصلاحات دستورية وإدارية واقتصادية وتربوية وإعلامية، بعضها عاجل وملح ويجب وضعه ضمن الأولويات للمرحلة القادمة، وبعضها الآخر يمكن أن يؤجل البت فيه إلى حين الانتهاء من جميع القضايا محل النقاش. - أن يتم مرحلياً البدء في بناء جسور الثقة بين أطراف المنظومة السياسية، لترميم ماخلفته سنوات الصراع السياسي من فجوات في المواقف والرؤى، والشروع في الحوار من النقاط التي تتفق أو تتوافق عليها جميع الأطراف، أو تحديد سقف يقف عليه المتحاورون، ونعتقد أن هذا السقف يجب أن يتضمن جميع القضايا التي سيشملها الحوار دون الخوض في تفاصيلها . ويبدو أنها تتعلق بقضايا ثلاث بخيارات متعددة شكلت محوراً للنقاشات والمبادرات الوطنية الرسمية والشعبية، وهي : شكل نظام الحكم «برلماني أم رئاسي»، النظام الانتخابي «الفردي بالأغلبية النسبية، أم القائمة بالتمثيل النسبي»، عدالة توزيع الموارد الاقتصادية «مركزية أم محلية». - يبقى الاتفاق على مناقشة هذه القضايا تحت الراية الوطنية، ورقابة السلطة التشريعية، ونقل وقائعها مباشرة إلى الرأي العام الوطني حتى يطلع على حقيقة المواقف، والتوجهات، ومدى جدية الأطراف في مناقشة وحل جميع القضايا محل الخلاف. - ترك جميع التفاصيل الفنية وغير السياسية للجان الفنية المكونة من الخبراء والمختصين كل في مجاله، وتحديد سقوف زمنية للانتهاء من إنجازها، بعد الاتفاق على تشكيل تلك اللجان والإطار العام لحل هذه الأزمات، وتحديد القضايا ذات الأولوية وعلى أن يتم لاحقاً الاستفتاء على جميع القضايا الدستورية أو الإصلاحات السياسية التي تتعلق بشكل الدولة، أو طبيعة نظام الحكم، أو النظم الانتخابية التي يتم الاتفاق عليها، لضمان عدم التنصل عنها مستقبلاً أو التهرب من مسئولية تطبيقها. مؤكد أن هناك عشرات النقاط أكثر أهمية مماتناولته هذه المداخلة، وعشرات المواضيع التي يمكن أن تطرح على طاولات المفاوضات والحوار السياسي، وأن وجهات النظر ستختلف وتتعدد وتتضارب، وإن الأعصاب ستتوتر عند الخوض في التفاصيل، وإن الضغط سيرتفع بوتيرة تتناسب طردياً مع سخونة الموضوعات المطروحة والقضايا التي ستناقش، وهذا أمر متروك لخبرة ومهارة المفاوضين للتغلب عليه، من أجل غاية واحدة سامية، إخراج الحوار الوطني والوطن معه إلى بر الأمان. لكننا جميعاً نأمل أن يكون شعار الحوار الوطني القادم : «يداً بيد من أجل إخراج الوطن من دوامة العنف» لأن اليمن أغلى.