على بعد أمتار من مربع صفائه واستغراقه الميتافيزيقي بدت له كالدوحة الباسقة، وكما لو أن لها أغصاناً تتمدد بتفريعات.. تنساب صوب مروج قلبه المُتروْحن بالهدوء والسكينة، وكانت أوراقها مموسقة كما لو أنها خضراء جداً!! فيما تاهت في دروب صمتها الأبدي مع وابل من أزهار ويعاسيب وعناكب ذهبية، في ذات الوقت الذي ظل فيها شارداً يسابق كيمياء صمته الصامت.. رافضاً قلق الوجود والمرئيات. تذكر لحظة يوم آخر من أزمنة الليل والمرايا، وشاهد صورتها الباذخة بعين قلبه المرتع شوقاً وحنينياً .. حاول أن يستعيد الزمن في ومضة من برازخ وصور متتالية. لم يصل إليها كما كان قد فعل .. ولم يرها كما قد رآها قبل حين، فأدرك كم هو الزمن فاجع وقاس، وكيف تمضي أيامهما وهي في سفر دؤوب صوب الدهر الهائم في ملكوت الغيب. على بُعد لحظة من طوبى أحواله الراهنة شاهدها مرة أخرى وهي كما كانت دوحة باسقة تتمايل طرباً، فأدرك أنها " تسترق اللذات بالألم " كما قال البوصيري، فالأيام رياح عاتية تكاد أن تقتلعها من جذورها .. أما هو فقد تهادى حزناً على غيابها الحاضر، حتى أن بارقة من استعادة وامضة أوقفته على ما كان وما سيكون، فصاح منشداً بلسان الحلاج: نظري بدء علتي ويح قلبي وما جنى يا مجير الظنى علي اعني على الضنى بعدها فاضت السماء بطيور زرقاء، وفراشات سابحة، وتمايلت الأغصان ضمن توليفة اللحن الأبدي للحنين المستحيل.