من المعروف أنه ليس كل ما يلمع ذهباً؛ لأن الصفيح أشد لمعاناً من الذهب، ينطبق هذا المثل كثيراً على عالمينا العربي والإسلامي اللذين عايشنا فيهما تجارب وشعارات وعناوين تعلقنا بها وعشنا لحظاتها إلى درجة التفاعل والغليان، إذ كانت تنقل تلك التجارب على أنها قصة النجاح والنتائج النهائية لهذا المشروع أو ذاك، وما هي إلا سنوات حتى يتبين أنها لم تكن سوى محاولات وفي بداياتها في معامل التجارب، وأنه قد خالطها الكثير من القصور والاختلالات، وكالعادة نظل بعدها نندب حظنا وغباءنا، وندرك بعد فوات الأوان أننا كنا نجري وراء سراب نحسبه ماء.. فكم لدغنا من جحر وبوسائل متعددة دون أن نتعلم أو نعي كيف ندافع عن أنفسنا، وحتى إن استيقظ البعض نجد أن الآخر يكون قد تجاوزه بمسافات وصحارى؛ وجدد من خدعه ومؤامراته ومن هذه الوسائل الجديدة الإعلام، وتفنن الغرب باستخدامه. فنحن نعيش بعالم فيه وفقاً لإحدى الدراسات 8 آلاف قناة متلفزة متنوعة لكل منها وجهتها وأهدافها والتي تدعم سواءً رسمياً أم من قبل مراكز ودوائر لها مخططاتها ومشروعاتها. ولا شك أن وطننا العربي بثرواته وموقعه وعقيدته وتاريخه الحافل بعلاقات جيدة أو صراعية مع الآخر سيكون محل الاهتمام الأكبر حتى تضمن الدول صاحبة المصالح مستقبل الوعي العربي حتى لا تفلت من يدها مفاتيح الأمور وتفاجأ بعقليات يصعب معها تمرير مخططاتها. ومع بروز تلك القنوات نجد الأستاذ هيكل يتساءل «عن دور عالم الصور على قضايانا الأساسية، هل ستؤدي إلى دور إيجابي لتحفظ للإنسان في النهاية إنسانيته، أم أنها ستعطي الناس الأصداء والألوان ثم تسحب منهم الوعي والذاكرة، وتحول المواطن إلى مجرد متفرج على الحركة السياسية؟!». شدّني هذا التساؤل، وذهبت أبحث عن قناة عربية يمكن أن ينطبق عليها كلام هيكل، فاستبعدت كل القنوات العربية الرسمية؛ أولاً لواحديتها، وثانياً لأنه لا تنطبق عليها شروط القنوات الجادة التي ترتقي إلى مستوى التحدي الحضاري والإنساني، ولم يعد أمامي سوى بعض القنوات اخترت من بينها قناة رأيت أنها تستحق أن تُدرس ويُلقى عليها الضوء لعدة أسباب؛ أولاً لأنها استطاعت في وقت قصير أن تأسر العقول إلى حد المحاصرة، فلا خبر إلا منها، ولا قول إلا ما قالته، وأصبح عندها الخبر اليقين كما يرى المشاهد العربي، ثانياً لاعتمادها على أدوات وأساليب إعلامية عالية الجودة، ولانتهاجها سياسة منفتحة متنوعة في برامجها ومقدميها وانتماءاتهم المختلفة المشارب من دينية إلى قومية إلى يسارية وهو ما أوصل تلك القناة إلى هذا المستوى، وبلغت إلى حد أنه أشيع مؤخراً أنه قد تم عرض مائة مليار دولار لشرائها!!. إن النجاح الكبير لهذه القناة لا شك أنه يثير الفضول ويدعو إلى محاولة التوغل بها وسبر أغوارها؛ إذ أن هذه القناة تعد قفزة حضارية وإعلامية لا تعكس حقيقة الواقع العربي المتخلف والذي لا يمكن أن تكون نتاجاً له، وأصبح التصور مفتوحاً أمام أية فكرة أو خاطرة لتفسير نجاحها. وبما أني لست إعلامياً متخصصاً؛ فسوف أحاول بتواضع الاقتراب منها، والتفكير بصوت مكتوب، ونقلها من حواف دائرة الضوء إلى وسطه قدر المستطاع وعلى النحو التالي: أولاً: إن هذه القناة مجهولة النسب بالنسبة لي وللكثيرين؛ بمعنى لا نعرف من يمتلكها، فهل هي مؤسسة مفتوحة لمن أراد أن يسهم فيها، وإذا كان كذلك؛ فمن هم أصحابها، أم أنها قناة رسمية للدولة التي هي فيها، أم أنها مؤسسة مملوكة لأشخاص ودوائر غير معروفة تتخذ من تلك الدولة موقعاً لها مقابل أن تستخدمها السلطة كأداة ورافعة سياسية عند تحركها السياسي، وهو ما دفعني للقول إن كل دولة تمتلك قناة إلا في حالة هذه الدولة؛ فإن هناك قناة متلفزة تملك دولة بكاملها، وأصبحت أركان هذه الدولة خلافاً لكل الدول؛ إذ تتكون من ثالوث عجيب «سلطة + ثروة + قناة = دولة»؟!. ثانياً: تهدف هذه القناة إلى نشر الوعي والحرية ومدافعتها عن حقوق المواطن العربي؛ إلا أن البعض يشكك بصحة ذلك، وان هذه الدولة كانت إلى قبيل افتتاحها تمنع عن مواطنيها استخدام الستلايت، وهو ما يثير التعجب لهذه الصحوة المفاجئة لها، وعن حقيقة ما تقوم به هذه القناة، وأن وراء الأكمة ما وراءها، وربما يكون القصد هو إعطاء الناس الأصداء والألوان ثم سلب الذاكرة والوعي منهم، وهو ما سيسهل من عملية السيطرة على الوعي وتحديد الأولوية للقضايا التي ينبغي أن يتفاعل معها العرب، كل ذلك سيؤدي إلى فقدان المقاومة وتشتيت عقلية العربي عمن هو عدوه الحقيقي. ثالثاً: إن من أهم الملاحظات على هذه القناة هو تركيزها المستمر على العلاقات العربية - العربية السلبية، وأنها أشبه بالزوجة غير الصالحة التي تنشر غسيل زوجها وتخفي إيجابياته. إن الإهمال للجوانب المضيئة التي قد توجد لبعض الدول العربية ليس صدفة؛ بل ربما يكون مدروساً بعناية، وما حصل مؤخراً من تضخيم إعلامي لما جرى بين الجزائر ومصر خير دليل على ذلك؛ إذ كانت هذه القناة الثانية بعد إحدى القنوات الفرنسية تتناول الموضوع بشكل سلبي كما صرّح المصريون. رابعاً: يؤكد أهل الاختصاص أنها لا تملك معايير واضحة في التغطيات الإخبارية، فقد تركز على موضوع مهم، ثم تعدل عنه فجأة، فمثلاً عندما تكون علاقة هذه الدولة التي فيها القناة مع دولة أخرى سيئة فإنها تستخدم كل جارحة لنشر غسيلها، وعندما تتحسن العلاقة نجد أن ذلك الملف فجأة يغلق ويتم الانتقال إلى دولة أخرى لتكون هدفاً مستباحاً «وكان الله بعونها». مثال آخر أوضح، لو افترضنا أن هذه الدولة علاقتها مع اليمن "سمن على عسل" لوجدنا أن هذه القناة ستنظر إلى اليمن بعين الرضا التي لا ترى إلا كل الإيجابيات، وعندما شاب هذه العلاقة الفتور والحساسية نجد أنها أبدت عين السخط التي تبدي المساوئ، وركضت هذه القناة وراء ما تمليه عليها سلطة الدولة المتواجدة على أرضها. أخيراً ذهلت وأنا أقرأ مقابلة لأحد رؤساء القنوات العربية في صحيفة "الحياة" عندما سئل عن ما يشاع عن قناته التي تستضيف كثيراً من المحللين الذين يُعتقد أنهم من أصل يهودي، كانت إجابته: لماذا يتم التركيز على قناته بينما هناك قناة أخرى مشهورة لا تستضيفهم فقط بل هم مقيمون بشكل دائم فيها؟!. إنها الكارثة، إن صدق ذلك، ولا يمكن إهمال كلامه وهو المتخصص والخبير، فإدخال العدو الصهيوني لكل بيت بأسلوب هادئ ابتداءً بتصوير رؤساء حكومات العدو الصهيوني وهم يصعدون السلالم متجهين لاجتماعاتهم وبأسلوب جذاب وبسيط له أثره عند المشاهد العربي المحروم من بساطة مسئوليه، وليس انتهاء بنقل صور إيجابية عن الحياة السياسية مثل نقل المحاكمات لمسئولين كبار فيها، وأيضاً ببلدان عربية مسئوليه يسألون ولا يُسألون.