خالي يونس كان عشائرياً من قبيلة طيء، وكان يصحبني معه إلى (الهوسات) وهي الاجتماع للاحتفال والغناء القبلي، لم أكن أفهم شيئاً مما يقولون سوى كلمة عبدالرزاق (آمر بيها)!! (أي الوحيد المتنفذ الذي له الأمر والطاعة، وعبد الرزاق كان شيخ عشيرة معتبر!). كان خالي يونس- رحمة الله عليه- يسمع الغناء ويطرب، وكأنه مدمن يحقّن نفسه بالهيروئين. وممن حولي رجل فاضل غني ميسور مثقف أراد التقدم للزواج في بلد خليجي من فتاة فرفض على أساس أن الكهربة عنده 110 وليس 220 فولتاج؛ فلا يصلح الجهاز ولا يعمل، مثل كهربة كندا فكلها 110 .. وأنا أفتح عيني وأذني ولا أفهم، فما علاقة الكهرباء 110 و220 بطبقات القوم العلية؟!.. ثم فهمت أن النكاح هو بين قبلية وخضيري، وخضيري تعني حضرياً من أهل المدن وليس من قبيلة معروفة، وهي عبارة تذكر على استحياء وسراً لأناس ليس لهم أصول قبلية واضحة، ولو كان صاحبها مخترع المفاعل النووي، ولقاح شلل الأطفال وحمى الضنك وأنفلونزا التيوس، ومخترع نظام الميكروسوفت، وسبق ابن زويل، وتمنى مندلييف صاحب نظام جدول العناصر التعلم منه، فهذه كلها لا قيمة لها، والقيمة المهمة أن يكون من قبيلة واضحة، من عشيرة معروفة، متفرعاً من فخذ وساق وأصبع قدم قبيلة من الفحول الأشاوس!. واليوم الكنديون والألمان والطليان لا ينتسبون لقبيلة وعشيرة، وهم خير البرية.. والله قال إنه جعل البشر شعوباً وقبائل ليتمازجوا ويتناكحوا، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالالتزام ودقة المواعيد وحسن الأداء وقوة الإنجاز والعلم، واختصرها القرآن بكلمة "التقوى" أي الالتزام والأداء.. وليس مثل اليابانيين والألمان في التقوى اليوم، ولا يجاريهم أحد بحسن الخلق وحسن الأداء، في الوقت الذي هبط فيه العرب إلى قاع المحيط أسفل سافلين من رداءة الأداء، وإخلاف المواعيد، وسوء الإنتاج واستفحال الديكتاتورية مثل الروماتيزم الخبيث، وسوء الأخلاق والشقاق والنفاق. وأنا رجل كسبت الجنسية الكندية بعد مكث ثلاث سنين، وأصبح لي في بلد عربي 26 سنة أكدح مواصلاً عمل الليل بالنهار، لا أطمح ولا أطمع في تحصيل جنسية ذلك البلد، مع أنني تقدمت إليها، وحققت شروط نيلها، فهذا هو الفرق بين بلاد الكفار والمسلمين!. الكفَّار يعطونك الجنسية في ثلاث سنين، وإخوانك في الدين واللغة والتاريخ، لا يعطونك الجنسية ولو بقيت ثلاثين سنة بين ظهرانيهم، مع أنك تصلي معهم الخمس، وتستقبل نفس القبلة، وتنطق بنفس اللسان، ولا أمان لك بالمقام إلا تفضلاً وكرماً؛ فيمكن في أي يوم أن يقولوا لك وبلطف، كما يزورك ملك الموت فيقول: "قد دنت ساعة الرحيل يا ابن توفيق جلبي". إنها الحقيقة المرة الموجعة يعرفها الجميع وينطقها الجميع ولكن سراً!. أنت مهدد بالترحيل والرحيل والفراق، ولو مكثت 26 سنة فتنتهي كما ينتهي أحدهم بضربة الصاعقة، وأجل الموت، وحوادث السيارات والجلطة القلبية، فلا أمان لأي يوم أن يستمر كما بدأ، متى ما فتح بابه أو أقفل دكانه!. وكنت بين الشراكسة في معرض دمشق يوماً، فسمعت مغنياً متحمساً بصوته المرتفع ب 160 ديسبل، بما يثقب غشاء الطبل، فلحظت من حولي رجلاً يحمر ألواناً وينتفخ مثل ديك حبش وأنا متعجب!. سألت: ما الخبر؟ وأنا لا أفقه كلمة مما يقول!. قالوا: يحمد الله أن جعله شركسياً!!. قلت في نفسي مكرراً قول أم رياض والدتي، وأنت أيها المسكين ما بالك في نادي القوم منكراً، غضب الله نزل عليك ثلاث مرات؛ فلست شركسياً، ولست قبلياً، ولست سليل عائلة ملكية فرعونية، بل ولدت من بطن امرأة تأكل القديد وتخبز الكليجا ليوم العيد؟!. وهكذا فكل قوم بما لديهم مفتخرون أنهم خير من أخرجت البرية...... وأذكر من صديقي الشركسي برهان، وهو يشرح لي أسرار لغة الأديغا القفقاسية فقال وهو يسرح ببصره عبر الأفق: هل تعلم أن مرادفات الحليب عندنا سبعون؟! فإن ركع وسجد واستلقى وتمطى وبيده كأس حليب لها مرادف، وأنا أعرف عن الأعراب أنهم يستخدمون للسيف سبعين مرادفاً. قلت لصديقي برهان: لو سألك أحد هذه الجملة كيف تنطقونها، هل عندك حليب بارد جديد؟! استغرب ثم بدأ في تركيب الجملة اشا اشا اشا اشا اشا، وأنا أردد معه اش اشا شا شا شا؟ وضحك كلانا من خرافات كل واحد. وكلنا لآدم وآدم خلقه الرب من تراب............ ومن أعجب ما سمعت عن قصة القبلي والخضيري؟ قالوا إن امرأة فصلت عن زوجها لأنه ليس من الطبقة النبيلة القبلية!. قلت: خالص أنت لست قبلياً بالتأكيد، ودمك ليس نبيلاً بالتأكيد، بل أنت من ملح الأرض.. وطوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. واليوم كنت أقرأ في سورة "الأحزاب" عن قصة زيد وزواجه من زينب بنت جحش، وكيف أن آيات كاملة نزلت لتحدد العلاقات الإنسانية، أن كل امرئ بما كسب رهين، يرجع من حيث خرج، والكل سواسية، وختمت النبوة على ذلك.. وفي الواقع فإن أمراض العالم العربي أكثر من رمل عالج في اليمن، ورمال الصحراء المغربية والإمارات، وصحراء النفوذ، والربع الخالي وبني مدين والهفوف. فالحزبي والطائفي في بلد جملوكي؛ إذا وقف في طابور الخبز أو الدوائر الحكومية وهي طوابير طويلة يجب أن يسبق الجميع، ويعتلي الأكتاف، ويتقدم الصفوف فوق الرفوف، ويبستم له كل الموظفين إن نالتهم الشفاعة الإلهية بتقديم خدماتهم لابن الإله شخصياً. أما ابن المسئول فهو من طينة الرب . أما ابن الحاكم فهو لا يقترب من هذه الحقارات أصلاً، وكل البلد مزرعة له ولعائلته وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته اللائي ولدن من العائلة الجملوكية بعد أن كُنَّ يخبزن في التنور ويمشين حفاة، كذلك لا ننسى خصيانه وحشمه وطواشيه وخادماته!. وأما المعاملات فيقوم بها الشرطة والدرك والعبيد المسومون.. وأما رئيس الفرع الأمني من مباحث ومخابرات وشرطة سرية، فهو ممن لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون !!. إنها الحقيقة المُرة الموجعة يعرفها الجميع وينطقها الجميع ولكن سراً!. إنها كما نرى جثة تعبث بها وتلعب جراثيم من الأوغاد المدربين على يد دراكولا مصاص الدماء. وإلى حين ولادة المجتمع الإنساني النظيف، الذي يسمى صدقاً وعدلاً "المجتمع الإسلامي" فسوف يسلط الله علينا مع شروق كل شمس الذل والهوان والخسف والمسخ وريحاً حمراء. «ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون»!.