سُئل (تشاوسيسكو) طاغية رومانيا السابق قبل مصرعه بأربعة أيام وقد اندلعت الأحداث في مدينة (تيمي شوارا) على يد قسيس مسالم عما يجري وهل يخشى أن تتطور الأمور الى أسوأ فقال: عندما تتحول أشجار البلوط الى تين عندها قد تتغير الأوضاع في رومانيا. قال له الصحفي من جديد: ولكن العاصفة في أوروبا الشرقية عرّت كل الأشجار فهل يمكن أن يصيب رومانيا ما أصاب من حولها؟ أجاب بثقة مطلقة: هذا صحيح وقد تغيّرت الأوضاع في كثير من دول أوروبا الشرقية ولكن رومانيا شيء آخر لاتعرفونه أنتم نحن نعلمه. من الغريب أن كل طاغية يكرر نفس المقولة ويحيق به نفس العذاب، كان ينطق على نحو من يسيطر على القدر وتجري الرياح مرسلات بين يديه، وأنه يشكل استثناءً أسطورياً فوق قوانين التاريخ، ولكن الذي حدث أنه في أيام معدودات أصبح تحت التراب عظة لكل طواغيت الأرض الذين لايتعظون، وترك خلفه (قصر الشعب) الذي أنفق عليه ميزانية خاصة كي يعمره فسكن المقابر والبلى وتركه خلفه خاوياً على عروشه بما ظلم، وسرى عليه قانون التاريخ كما سرى على فرعون والمؤتفكات وأصبح سلفاً ومثلاً للآخرين، وانهار نظامه بأسرع من بيت كرتون، وودّع هو والنخبة التي روّعت البلاد والعباد فما بكت عليهم السماء والأرض وماكانوا منظرين. من المثير أنه من رومانيا انتشرت اسطورة (دراكولاDRACULA) فيخرج في الليل بأنياب ذئاب لينقضّ على النيام فيمتص دماءهم ويحولهم الى أشباهه على شكل أشباح تعسّ في عتمة الليل البهيم تنشر الرعب. كان شاوسسكو دراكولا ولكن يمارس الرعب في وضح النهار، وكان قطيع الاستخبارات (السيكوريتات) مائة ألف أو يزيدون مسلحين بكل عتاد في أوجرة تحت الأرض بأنفاق لانهاية لها ولكنهم اختفوا خلال أيام وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون. كل طاغية يكرر كلام شاوسسكو على نحو آخر فيقول: نعم إن شاوسسكو سقط لأن قدميه كانت من صلصال من فخار أما أنا فمعدني من مارج من نار. والسؤال: كيف يمكن لفرد الامساك برقبة أمة تعد بالملايين؟ ماهي الآلة الخفية الجهنمية للاستبداد؟ كيف نفهم آلية عمل الحاكم والأعوان؟ كيف تتشكل القبائل الأمنية الضاربة؟ في عام 1911 م وزّع منشور شيوعي على شكل كاريكاتور يضم خمسة طوابق وفوق الجميع استقرت صرة مكتنزة بالدولارات وفي أسفل المنشور كتب (الهرم الرأسمالي). إذا تأملنا الصورة تبين لنا في أعلى الهرم الطبقة الحاكمة وبجانبها عبارة:(نحن نحكمكم) وأسفل منها يبدو أعوان الحاكم وسواعده من كاهن ومبشر وبجانبها كلمة:(نحن نخدعكم)، أما الطابق الثالث فقد امتلأ بالجنود والأسلحة وبجانبها كلمة:(نحن نقتلكم). وفي أسفل الهرم ارتمى حشد لانهاية له من الجياع والأطفال المهملين والعائلات المحطمة لصنفين من الناس: العمال والفلاحون وبجانبهم جملة:(نحن نعمل من أجل الجميع نحن نطعم الجميع)، وبين طبقة البؤساء هذه وطبقة الجنود جلست طبقة مترفة منعمة تأكل من عرق وجهد المساكين وبجانبها كلمة ساخرة:(نحن نأكل من أجلكم). من سخرية الأقدار أن شاوسسكو كان شيوعياً أحمر مراً، والشيء الذي جاءت من أجل اقتلاعه الشيوعية تحديداً تم ترسيخه على يد الرفاق أضعافاً مضاعفة فخدمت الرأسمالية أيما خدمة، وعُبِد ستالين ولينين وماوتسي تونغ بأشد من عبادة بني اسرائيل للعجل الجسد فكان له خوار.. ألم يروا انه لايكلمهم ولايهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين. الدولة تقوم على احتكار العنف بواسطة الآلة العسكرية وامتداداتها من القبائل الأمنية الضاربة بفارق أن من يدخل في (جوار) شيخ قبيلة أمنية لايحمي نفسه من بقية القبائل التي تصل أذرعتها لكل مواطن أينما كان في أي وقت في ظل أحكام عرفية مفتوحة. الجيش يقضي على الفردية ليحول المجموع الى قطعة لحمية مستلبة التفكير والمبادرة والارادة تعمل لصالح إرادة خارجية تنفذ من دماغ متفرد بإرادة شخص واحد هو القائد، وحتى لايحصل أي تمرد ولضمان مطلق الطاعة والانصياع فإن التدريب يقوم على أن حياة الفرد من حياة القطيع ومخالفته للأوامر تعني الموت في محاكم ميدانية. بهذه الطريقة تنشأ جيوش المرتزقة المستعدة للقتل بموجب الأوامر بدون تردد. وعندما يوقد مجنون عسكري ناراً للحرب فإن الفرق العسكرية مزودة بفرق إعدام خلف الجيش فإذا لاحظوا أن الجندي لايطلق الرصاص سحب وأطلق عليه الرصاص، وإذا التقى جيشان كما وصف (فولتير) فليس أمامهما سوى أن تقتتل بما لاتفعله البهائم بآلية المحافظة على الحياة. ويروي المؤرخ توينبي عن الحروب أنها كانت (تسلية الملوك) فكان الشباب ينحر بعضهم بعضاً بإشارة من إصبع. هكذا فعلت المؤسسة العسكرية وكذلك يفعلون، والى هذا القانون الاجتماعي انتبهت الملكة اليمنية قديماً أن العسكريين إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون. يقول (جارودي) في كتابه (نحو ارتقاء المرأة): إن العمود الفقري للآلة العسكرية يقوم على مبدأ التخلي الكامل عن المسؤولية الفردية والارادة المتميزة والتخلي عن أي مسحة تفكير. كما أن سمة المؤسسة العسكرية الأولى الذكورية وبذا مسخ الوجه الانساني للمجتمع فظهر بعين واحدة كما في أسطورة عملاق أوديسوس.