في سورة يوسف جاءت كلمة لافتة للنظر على لسان امرأة العزيز: (وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا مارحم ربي). في الحقيقة، تُعدّ قصة يوسف في القرآن ملحمة وقصة بحبكة وضوء في ظلمات اليأس، وجوها كله يوحي بأن النصر قارب للنبي صلى الله عليه وسلّم فعليه بالصبر. ومما لفت نظري أيضاً في السورة تعبير: ولقد همَّت به وهمَّ بها، وهو تعبير واضح صادق عن غرائز تعصف بالإنسان، ومنه على الإنسان أمران: الدعاء والصلاة والصبر عن الشهوات. وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. ولكن كلامنا هنا على الفقرة التي جاءت في كلام امرأة عزيز مصر أن النفس أمارة بالسوء، فهل هناك نفس غير أمارة بالسوء؟ لنقل بكلمة أدق هل هناك مدارج ومعارج للروح كما وصفها أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير: (معارج القدس في مدارج معرفة النفس), وهو يؤسس بذلك لعلم نفس إنساني مبكر؟ ثم هل هناك تقاطع بين معلومات الغزالي القديمة، ومدارس علم النفس الحديثة في اكتشاف مجاهيل النفس وظلماتها الدفينة؟ أتذكر – جيداً - من أستاذي هشام بكداش الذي كان قد جاء لتوه من أمريكا يحمل شهادة في الجراحة العصبية, وأنا أساعده بوصفي طبيباً مقيماً، فقال لي: هناك مستويات من الروح تتحرك فيها النفس في دوائر بين ثلاثة أوضاع: الطبيعي والعصاب والنفاس أو الذهان، أو ما يُتعارف عليه الناس بالجنون! ولكن ماهو الجنون حقاً؟ ولماذا تحدث القرآن عن هذه الظاهرة باستفاضة, وهو يستعرض تاريخ الرسالات أنه ماجاء من نبي إلا قالوا عنه ساحر أو مجنون؟ ثم يقول عجباً هل هو أمر وصى بعضهم بعضاً على تكراره وترديده؟ أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون؟ أنا شخصياً أعرف السخرية تماماً من زميل لي في المدرسة في القامشلي حيث نشأت اسمه أنطوان حين كان يسخر بي، ذلك أنني على نحو مبكر كنت كثير القراءة, ثم خطر في بالي أن أكتب، فنلت من السخرية ما حرّم يدي من القلم، حتى جئت المدينة العريقة دمشق فتفتحت فيها مثل ريحانة. ماهو الجنون ولماذا اتهم به الأنبياء رضوان الله عليهم؟ نحن نقرؤها أنها حدثت ولكن لنتصور أننا نعاصر الحدث؟ يقول عالم الاجتماع العراقي الوردي: إن مؤشرات الجنون أمران: الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك، فهل كان الأنبياء عليهم السلام كذلك؟, والإجابة هي أنهم فعلاً انفكوا عن الواقع ولكن بالتبشير بعالم جديد، يتساوى فيه الذكر والأنثى، والعبد والحر، والسيد والمسود، والأمير والحقير, وهم يصلون بجنب بعضهم بعضاً في ديموقرطية المسجد، عفواً من التعبير ولكنها حقيقة. فإذا أردنا الآن لمّ الموضوع حول سباحة الروح كما يرمز القرآن في أكثر من موضع والسابحات سبحاً والنازعات غرقاً لأوضاع مختلفة وكائنات غير متوقعة، فإن الروح الإنسانية أيضاً تحلق وتهبط بين معارج مختلفة من النفس الأمارة بالسوء وهي الحالة الطبيعية في دائرة تتداخل مع دائرة أسفل منها وأخرى أعلى منها؛ فأما الاتجاه للأسفل فهو باتجاه النفس العصابية المختلة، فإذا تزحلقت أكثر للأسفل فهي تنزل إلى حالة الذهان أو النفاس أو الجنون، وأمام هذا الاتجاه يأتي اتجاه مختلف هو الصعود من مستوى النفس الأمارة بالسوء إلى مستوى النفس اللوامة, وهي التي ملكت آليات المراجعة الدائمة، فإذا استمرت على هذا دخلت حالة النفس المطمئنة، وهي تلك الوضعية التي حققت شروط دخول الجنة, ولكن لا دخول بدون رحمة الله التي كتبها على نفسه.. فإذا رأينا الآن كامل المخطط بدا لنا خط مائل متعرج تترفع فيه النفس أو تهبط.. تتداخل فتخرج وتدخل من دائرة إلى دائرة، فمن يخاف طبيعي، ومن يركبه الخوف فلا يتركه إلا مريضاً نفسياً، ومن دخل وخرج وتكرر ذلك بدأ في المرض فوجب تحريره، ومن جاهد نفسه صعد واقترب من السماء، ومن هبط وصل إلى قعر لانهاية له. (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين)..