تعيدنا أزمة الانتخابات السودانية إلى قضية الديمقراطية وإشكاليات التحول إليها منهجاً للحكم ووسيلة لتحقيق الأهداف، في بعض الأقطار العربية التي شهدت انفتاحاً سياسياً على الديمقراطية، أو محاولة للتحول نحوها. ففي كل هذه الأقطار تتحول الانتخابات من وسيلة لإدارة العمل السياسي وحسم صراعات أطرافه على السلطة سلمياً إلى مصدر أزمة سياسية تنشأ من اختلاف القوى السياسية على إدارة العملية الانتخابية وشروط المشاركة فيها، أو من المواقف تجاه إجراءاتها التنفيذية ونتائجها. ولا نحتاج إلى كثير علم لنقول: إن أزمات الانتخابات العربية تعكس الأزمة السياسية وتجسد معطياتها المركبة من تاريخ السياسة وواقعها في تلك الأقطار، ولهذا أكدنا في المقالات المنشورة بملحق الديمقراطية منذ عودة صدوره على أولوية صياغة المضمون الديمقراطي الجامع للاختلاف السياسي والتوافق عليه بين جميع الأطراف ليكون ميثاق التحول المتاح نحو نظم الحكم الديمقراطية. وتأتي أزمة الانتخابات السودانية لتمدنا بالمعطيات الواقعية المبرهنة على الصدق النسبي في الرأي المشار إليه آنفاً لامن حيث دلالتها على استعصاء الدمقرطة في الوطن العربي، ولكن من زاوية كونها واقعة متكررة في أقطار عربية تستدعي التفسير والتأويل. دعونا نتساءل عن الأسباب التي دفعت بالقوى السياسية السودانية وأحزابها إلى القبول بالعملية الانتخابية وإعلان المشاركة فيها والتقدم بمرشحيها للتنافس على أصوات الناخبين للفوز بمقاعد السلطة التشريعية ورئاسة الجمهورية. ودعونا نتساءل أيضاً عن المستجدات التي دفعت بتلك القوى إلى المطالبة بتأجيل الانتخابات وإنتاج الأزمة بين الأحزاب السودانية، وكذلك إلى الانسحاب من معترك التنافس على منصب رئاسة الجمهورية. ومن بديهيات المعرفة أن نتساءل أيضاً عن أسباب الرفض التام لمطلب تأجيل الانتخابات من قبل حزب المؤتمر الوطني والقبول برغبة شركائه وغالبية الأحزاب السودانية، إذا كانت المصلحة الوطنية العليا تقتضي ذلك. اكتشفت القوى السودانية وأحزابها السياسية بعد التقدم بمرشحيها لخوض الانتخابات المؤجلة أصلاً عن موعدها الذي كان محدداً قبل موعدها هذا الشهر أن الانتخابات لن تكون حرة ونزيهة لهذا طالبت بالتأجيل من أجل إتاحة الفرصة الكافية لضمان نزاهة الانتخابات وتأمين هذه النزاهة من التزوير المحتمل للتصويت والنتائج. هذا المطلب قوبل برفض تام وحاد من قبل حزب المؤتمر الوطني، والرئيس عمر البشير الذي ربط بين الانتخابات وعملية تقرير المصير لجنوب السودان ليكون التأجيل أو الإجراء شاملاً للانتخابات والاستفتاء وبعد تدخل أمريكي مدعوم أوروبياً قررت أحزاب المعارضة وشريك الحكم الانسحاب من الانتخابات الرئاسية، والمشاركة في التشريعية والمحليات، ولاتزال الأزمة قائمة، بحيث لاندري ماذا حدث عندما تكون هذه المقالة بين يدي بعد يوم من 11 ابريل الجاري. دعونا نرى من أزمة الانتخابات السودانية وجهاً من أزمتها العربية الموحدة على الموقف السياسي من الحزب الحاكم عموماً ومن نتائج الانتخابات تحديداً، سياسياً يكون الادعاء بتزوير الانتخابات دعاية تبرر خسارة المعارضة وتشكك بفوز الحزب الحاكم لكن منطق العلم والتجربة التاريخية للديمقراطيات العريقة يشير إلى ضرورة التوافق على الانتخابات كوسيلة معترف بها ومقبولة من كل أطراف الصراع السلمي على السلطة فما هي الإدارة الانتخابية المقبولة من كل الأطراف والمأمونة على إدارة العملية التنافسية وإعلان نتائجها؟ إنشاء إدارة انتخابية مستقلة ومحايدة هو الشرط الأول لقبولها، وتوفير قضاء عادل ومستقل للفصل في الطعون والمآخذ على أداء هذه الإدارة وإجراءاتها التنفيذية هو الشرط الثاني، ومع ذلك يظل الترابط بين الحزب الحاكم ومؤسسات السلطة مصدر تشكيك بالنزاهة والاستقلال الأمر الذي يقتضي معالجة هذا التأزم بمشروع مرحلي متدرج في بناء النظام الديمقراطي وترسيخ قيمه وآلياته في الدولة والمجتمع. وفي السودان، لاتزال قضية الاندماج الوطني مصدر تأزم سياسي في تاريخ دولته المستقلة، وإلى هذه القضية يعود الفضل في أمر الانفتاح الراهن على الديمقراطية والانتخابات التعددية بناء على اتفاق السلام الموقع بين أطراف الحياة السياسية، كذلك يأتي اتفاق الدوحة في أزمة دار فور، حاملاً لهذه القضية في منظور الالتزام بين متمردي الإقليم والحكومة المركزية تجاه الشراكة في السلطة والثروة. إذاً، فالمجال السياسي في السودان غير مهيأ، في الوقت الراهن للتغيير المأمول أو المراد بنتائج الانتخابات المختلفة، لأن هذا المجال يحدد أولوياته في التوافق على الدستور الديمقراطي أولاً، والاندماج الوطني في كيان يقوم على مبدأ المواطنة كأسس للمسئولية والمشاركة السياسية في القرار والتنفيذ. وإذاً أيضاً، تكون الانتخابات وسيلة لبناء المجال السياسي على قاعدة التوافق بين أعراق المجتمع السياسي وطوائفه الدينية بحيث يتأتى لها الانخراط في كيان جامع لاختلافها في إطار سياسي موحد بالمواطنة وهويتها السودانية، عرقياً وثقافياً، فلماذا تحولت الوسيلة إلى أزمة تتهدد انجازات الوفاق السوداني على السلم ومتطلباته. من المؤشرات الظاهرة في الواقع الراهن بالسودان، نستدل على مناخ سياسي يجعل الغلبة لحزب المؤتمر الوطني من منطلق التأسيس النظري على الفكر السياسي حين يجعل مناخ الأزمات مصدراً لعوامل الإجماع الوطني الذي يتجاوز الاختلاف أو يؤجلها إلى مرحلة لاحقة على قدر من الاستقرار وغياب التهديدات الداخلية والخارجية، وهذا ما يجعل حزب المؤتمر الوطني واثقاً من فوزه بأغلبية أصوات المقترحين خاصة في الانتخابات الرئاسية. غير أن هذه الحالة لاتمنح حزب المؤتمر الحق في الإصرار على إجراء انتخابات قد تهز حالة التوافق السياسي الوطني على السلم والسلام في السودان، فالانتخابات قد تفقد شرعيتها رغم نزاهتها، إذا غاب عنها التوافق على المشاركة والصدق في التنافسية بين مرشحي القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة. ولاشك أن قدراً من التوافق مطلوب لإدارة الصراع السياسي بوسيلة الانتخابات وغيرها، مادام السودان في مرحلة تتحدد أولوياتها خارج نطاق تداول السلطة وداخل متطلبات بنائها في الوطن والشعب كما في الدولة والمجتمع.