تعد الثقافة الوطنية بمثابة الرافعة الأولى لتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق الاندماج الاجتماعي من جهة، ولتقليص الهوة بين الإرادة السياسية و إرادة الجماهير من جهة ثانية، فحتى تكتمل عملية الاندماج الوطني، و تصبح الوحدة الوطنية في مأمن، ينبغي النظر في مدى قدرة الثقافة الوطنية على بلورة الشخصية المنشودة للمواطن الصالح، فحدوث أي تعثر لعملية الاندماج الوطني أو تصدع في الوحدة الوطنية، في أي بلد من البلدان، يحيل التفكير، ليس فقط إلى الولاء الوطني بل إلى الثقافة الوطنية، باعتبارها البوتقة التي تضم مجمل العناصر المسئولة عن التنشئة الوطنية - والولاء الوطني جزء منها- إلا أن الثقافة الوطنية باتت اليوم في مأزق، جراء ما تطرحه العولمة من عناصر ثقافية تسعى لتعميم النموذج الثقافي للغرب في كل أرجاء المعمورة، دون مراعاة للخصوصيات الوطنية ودون أخذ سلامة الوحدة الوطنية للبلدان ذات الخصوصيات الثقافية في الحسبان، فهذا النموذج الثقافي للغرب المتقدم يطرح نفسه بدرجة عالية من التقنية التي تمنحه القدرة على التأثير والإبهار، بما يترتب عليه من تسطيح للقضايا الوطنية الهامة أو جر الاهتمام نحو مسائل ثانوية واستثنائية أو الإسراف في تقديم الترفيه والإمتاع الرخيص، غير المكترث بالقيم الحضارية للمتلقي، في ظل عجز الثقافة الوطنية عن منافسة هذا السيل الإعلامي، مما يضع المواطن بين خيارين، إما الانبهار بالعناصر الثقافية الوافدة، غير المعنية بغرس القيم الوطنية، أو الارتماء في أتون الأصولية والتطرف. فضمور الثقافة الوطنية، يترتب عليه انحصارها في شرائح اجتماعية محددة، ووقوع العديد من الفئات الاجتماعية تحت تأثير أنماط مختلفة من الثقافة، كالعولمة الثقافية أو الثقافات الفرعية، أو الأفكار الدينية المتطرفة، بما يترتب عليه من اتساع الهوة بين ثقافة النخب السياسية وثقافة الجمهور، فتقل فرص التلاحم بين إرادة القيادة السياسية وبين الجماهير، إن لم تتعارض، نتيجة لغياب وحدة الهدف، وبدلاً من سعي كل فرد لتحقيق مصلحته من خلال خدمة المصلحة العامة، يلجأ الكثير من الأفراد إلى البحث عن طُرق سريعة لتحقيق الأهداف الخاصة، و إن تعارضت هذه الأهداف مع المصلحة العامة، ولنا أن نتصور مدى فداحة الأضرار التي قد تلحق بالمصلحة العامة و بالمصالح الوطنية جراء تفشي مثل هذه السلوكيات، وجراء المواقف السلبية المتمثلة في تنصل الكثير من الأفراد عن مسؤولياتهم الوطنية، وصولاً إلى احتمالات التفريط بعض الثوابت الوطنية، فهذه الحالة من السلبية واللامبالاة، تجد تفسيرها في سوء تقييم ما تحقق على أرض الواقع، وغياب القدرة على تشخيص الواقع بمشكلاته وتناقضاته المختلفة، كمقدمة لوضع الحلول الجذرية والمعالجات الناجعة لما يعتمل فيه من مشكلات وتناقضات، تفادياً لاتساع الهوة بين الجماهير وبين السلطة، حتى لا يصبح لكل طرفٍ همومه وأوجاعه، فيقف من الآخر ومن مشكلاته وأزماته موقف المتفرج. وإذا كان من غير المنطقي إنكار وجود أخطاء رافقت العمل السياسي، في هذه الفترة أو تلك، فمن غير المنطقي، أن نتناسى أن النظم السياسية الحديثة، هي في جوهرها، عبارة عن سلسلة غير منقطعة من الحلول العقلانية لمشكلات الوجود الاجتماعي، لذلك فقد أثمرت هذه النظم عن نيل الإنسان لأهم حقوقه، وبعثت فيه الدافع للقيام بمسؤولياته الاجتماعية وواجباته الوطنية وأيقظت لديه الرغبة في العطاء والإنجاز، والتلاحم مع قضايا وطنه وأمته، فالصلة الوثيقة بين النظام السياسي وبين المواطنين عززت الثقة بين الطرفين, ولأن مصالح الأطراف الحاكمة والمحكومة في مجتمعاتٍ كهذه، تتكامل مع بعضها، ولا تتعارض، فمن الطبيعي أن تتطابق ثقافة النخب السياسية مع ثقافة الجمهور، وتتوافق الأهداف الخاصة مع مضمون الأهداف العامة للدولة، وطالما ظل الارتباط في المصالح قائماً، فلا خوف من ظهور الأخطاء التي قد ترافق العمل السياسي، ولا خوف من أحد على أي أحد، ومع أن الثقافة الوطنية هي نتيجة مباشرة لعملية متواصلة من التنشئة الوطنية، التي لا تقتصر على المدرسة بل تتجاوزها إلى الأسرة وأماكن العمل والحزب السياسي، حتى لا يترك الفراغ لمن يملأه بالأفكار الضالة، أو بالأطر الثقافية الضيقة، التي تسهم في الثقة بين النُخب الحاكمة وبين العامة، كما تسهم في تضارب الأهداف الخاصة للأفراد مع الأهداف العامة للدولة، ليستمر خوف الجميع من الجميع، فالأطراف تخشى بعضها أو تتربص ببعضها، وفي أحسن الأحوال ، تقف من بعضها بعضاً موقف المتفرج، وفي ظل استمرار حالة السلبية واللامبالاة من قبل الجماهير، أمام تنامي حاجة السلطة السياسية للتأييد والمساندة، تصبح الفرصة سانحة أمام العناصر الطفيلية، لتقدم نفسها كنصير للنظام السياسي، فتتسع دائرة الاختلالات ويشتد التعارض بين مصلحة النظام ومصلحة الجمهور، لأن ما يحمل مصلحةً لطرف قد يهدد مصلحة الآخر، إلى أن يأتي اليوم الذي ندرك فيه، حكاماً ومحكومين، أننا نسير على قاربٍ واحد، ولا نجاة لنا من فوضى بعضنا وعبثهم، سوى بتطبيق القانون، حيث تتلاشى فرص تحقيق الذات خارج إطار الالتزام بالقانون، حينها سيتفرغ الجميع للعمل والعطاء، كل في موقعه، إذ من المؤكد أن العيش في مجتمعٍ من الأنداد المتساوين يميل بالإنسان على وجه العموم لأن ترتفع معنوياته , وأن تعمل إمكانياته بيسر وفاعلية، فلا يمكن لأحد أن ينكر أنه لو عاش في مجتمع يجعله في إحساس دائم بامتياز الآخرين عليه, وبأنه بلا قيمة على الإطلاق, فإن من شأن هذا الإحساس على وجه العموم كذلك أن يجعله مكتئباً وعاجزاً شبه مشلول. ينظر إلى ما يهدد بلده ووحدتها نظرة سائحٍٍ، إذ تنكمش حدود وطنه ووطنيته إلى حدود القبيلة، لتتصدر الموجهات القبلية تنظيم العلاقة بين الأطراف على حساب العمل المؤسسي و المواجهات القانونية، فيشترك الجميع في تكريس الاستبداد. فبإعلاء سلطة القانون, تصبح قواعد السباق بين المتنافسين محل ثقة، بما يرفع من درجة وعي الإنسان بذاته وبواقعه الاجتماعي، وبأهمية دوره الاجتماعي, ويزيد من تفاعله الواعي مع الواقع، الأمر الذي يعود بالنفع على الفرد وعلى المجتمع ، فيزداد وعي المواطن بالمؤسسة السياسية، كون ما يقال لا يتناقض مع ما يمارس في الواقع، مما يضاعف من الخبرة ويراكم من التجارب السياسية. فيتعمق الاعتقاد بأن ثمة نوعاً واحداً فقط للعلاقة بين الفرد والدولة, وأنه وحده الصحيح الملائم. فالأفراد وحدات منفصلة - لا ينبغي النظر إليهم في إطار انتماءاتهم القبلية أو الطائفة أو السياسية- ويدخلون معاً في عقدٍ اجتماعي بينهم وبين الدولة, وبين بعضهم البعض. مما يترتب عليه حقوق معينة وحريات والتزامات، وإلا فإن من يقف موقف اللامبالاة من عدم الالتزام بتطبيق القانون على الجميع، هو شريك بشكلٍ أو بآخر لمن ينتهك القانون.فمن دون العمل المؤسسي يستحيل أن يتطور مجال السياسة من البدائية إلى المدنية، ليتحرر الإنسان من قيود التبعية، حيث تقود هذه العملية لعقلنة العلاقات البشرية، فتطور النظام السياسي الحديث جاء ليواكب التغيرات المتمثلة في وعي الجماهير بذاتها وبحقوقها، وتضافُر التطور الاقتصادي مع التطورات السياسية والثقافية والأيديولوجية , من شأنه تشكيل بنية من التكامل المتجدد، تؤذن بتحديث بنية الدولة، في ظل سيادة القانون والدستور، لتتحد الإرادة السياسية بإرادة الجمهور.