إن فاعلية النظام الديمقراطي تقتضي عدم اجتزائه، أو فصله عن سياقه الثقافي باعتباره التربة التي بدونها لا تؤتي الديمقراطية أكلها، فإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب من أجل الشعب، فالأحرى بمن يسهرون على تطوير النظام الديمقراطي أن يدركوا أهمية حقوق الإنسان، أو حقوق هذا الحاكم نفسه بنفسه لنفسه، و يدركوا ضرورة الإعلاء من قيمة المواطن، ونيله لمختلف حقوقه ، بحسب ما جاءت به المنظمات الدولية المنبثقة من الأممالمتحدة ، كمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و بما لا يتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية المؤكدة على تكريم الله للإنسان. وفي اليمن حظيت مبادىء حقوق الإنسان باهتمام كبير منذ وقت مبكر، فأهداف الثورة اليمنية كانت مبنية على مبادىء حقوق الإنسان كحق المساواة، وحق احترام إرادة الشعب وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات والاتحادات، وحق الانتخاب والتصويت وحرية الفكر والتعبير، و قد اعتمد نظام الحكم في اليمن على وجود الدستور، كعقد اجتماعي لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، بما ينقل المواطن من مرحلة الخضوع القسري – السائد في الأنظمة الدكتاتورية إلى الخضوع الحر، الذي تكفله الأنظمة الحديثة، ومن غير المبالغة القول بأن اليمن قد قطعت شوطاً كبيراً على صعيد بناء دولة المؤسسات، وإن ظل الانتقال إلى طور العمل المؤسسي محاطاً بالعراقيل التي تحد من طموحات الأفراد في الانتقال بالمؤسسية إلى أطوار متقدمة تحد من شخصنة المرافق العامة من خلال معايير واضحة وشفافة تنظم حدود الصلاحيات وتنظم قواعد الوصول إلى الأهداف، لتحقيق أقصى ما يمكن من الانجاز بما يعزز شعور المواطن اليمني بقيمته وبقدرته على الانجاز والإبداع، وصولاً إلى تفعيل مختلف الأدوار لتصب في مصلحة الوطن. فواقعياً هناك الكثير من العقبات التي تعترض مسار حقوق الإنسان ، وهذه العقبات – في معظمها- مرتبطة ببنية الثقافة القائمة على القبول بالتراتبية أمام القانون، فإذا كانت النصوص القانونية لا تميز بين المواطنين على أساس اللون أو الانتماء أو الجنس.. فإن ما قد يحدث من تجاوزات أو اختلالات في الواقع، مرده إلى اجترار المجتمع لبنية الثقافة التقليدية الموجه لسلوك الأفراد، إذ كثيراً ما يطغى تأثير الثقافة التقليدية المتعايشة مع الثقافة الحديثة، في تحديد المنظومة القيمية لبعض الأفراد أو الجماعات بما يتسبب في تشويه ولائهم أو انحصاره في إطار جماعة معينة فيحول ذلك دون نظرتهم للآخرين كأنداد . ولا تقتصر هذه المشكلة على حق التساوي أمام القضاء، بل تشمل إنشاء نظام يعتمد على الكفاءة في الإنجاز، كآلية للتوظيف وللترقي في المناصب، وفي الواقع لم يتم الوصول إلى تطبيق نظام وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، إلا أن هنالك نظام للتوظيف يحقق الحد الأدنى من الكفاءة في الانجاز، وهذا النظام، على الرغم مما يعتريه من أوجه القصور والاختلال لا يزال يحظى بالقبول في أوساط المجتمع، وحالياً تبذل جهود رسمية ودولية حثيثة للانتقال إلى آلية أكثر كفاءة ، تعتمد على الشفافية وتقوم على المعايير كالكفاءة والقدرة على الانجاز.. لضمان أقصى ما يمكن من تساوى فرص العمل أمام جميع المواطنين، و إذا كان من الركائز الأساسية لتدعيم حقوق الإنسان وجود حكومة مقيدة، ففي اليمن يتمتع مجلس النواب، من الناحية النظرية على الأقل، بصلاحيات واسعة تمنحه الحق في سن القوانين المنظمة لأعمال ومهام الحكومة، والحق في مراقبة أعمال السلطة التنفيذية، كما تخوله الحق في استجواب الوزراء.. وعلى الصعيد التنموي قطعت اليمن شوطاً كبيراً في تمكين المواطنين من نيل الكثير من الحقوق الأساسية، وعلى الرغم مما تحقق في هذا المضمار، تظل فكرة المواطن الذي يحظى بحقوق ويعلى من شأنه قاصرة ومشوهة ، خصوصاً في أذهان النخب المثقفة و قادة منظمات المجتمع المدني، إذ يلاحظ أن أنشطتهم الموجه نحو الجماهير، لا تزال من قبيل الإحسان أكثر منها واجباً وطنياً. وفي ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع اليمني يظل العمل على تنمية حقوق الإنسان اليمني على رأس أولويات ترسيخ التجربة الديمقراطية، وفي مقدمة الحقوق ذات الصلة بتعزيز النهج الديمقراطي، الحق في التعليم، إذ يظل التوسع في مجال التعليم ، وتطويره على المستويين الكمي والنوعي، من أكثر الأولويات إلحاحاً ، من أجل تجاوز حالة الركود التي قد تصيب أي مجتمع . وفي اليمن بالرغم من الجهود المضنية والإنفاق المتزايد على التعليم، لا يزال الفراغ الناجم عن ارتفاع معدلات الأمية مصادراً ملائماً لاستمرار الثقافة التقليدية ومبرراً لاجترار الماضي وأدواته العتيقة في معالجة قضايا الحاضر الأكثر تعقيداً ، ومن غير المتوقع الخروج من شرك الأمية قريباً، مما يطيل في بقاء مرحلة اللاحسم الحضاري و يؤثر سلباً على مسار حقوق الإنسان ، ويطيل من أمد الأيديولوجية الماضوية التي تحرص على تفسير الواقع بأدوات ومبررات مثالية ، تنتمي إلى الماضي ، وهي في كل الأحوال عاجزة عن فهم الواقع ،كما تتسم هذه الثقافة بعدم التسامح و الشمولية والإيمان بواحدية الرأي ، الذي لا يقبل التناقض ، لتكريس التراتب الإرثي، فعلى الرغم من التقدم في مضمار حقوق الإنسان اليمني ( في الدستور والقوانين)إلا أن واقع حقوق الإنسان أقل من ذلك بكثير، لعوامل تتعلق في معظمها، باجترار الإرث الثقافي المثقل بعناصر الاستبداد، إذ من الواضح أن عملية الانتقال من طور العلاقة القائمة على الخضوع أو الإخضاع، و على الاستغلال والانصياع، إلى طور العلاقة القائمة على التعاقد والحقوق والواجبات بين الدولة والمواطن، لم تكتمل بعد، فنظراً لضعف عملية التنمية الاجتماعية وغلبة علاقات الإنتاج التقليدية وما يرتبط بها من بنى سياسية أقل حداثة، لم تفقد الثقافة التقليدية مبررات بقائها، ففكرة المواطن الذي يحظى بحقوق ويعلى من شأنه تظل قاصرة ومشوهة حتى في أذهان النخب المثقفة و قادة منظمات المجتمع المدني، لتظل أنشطتهم الموجه نحو الجماهير، من قبيل الإحسان أكثر منها واجباً وطنياً. فلا يزال المجتمع اليمني، في معظمه، تقليدياً حيث الفرد مشدود إلى إطار ثقافته الخاصة ويدين بولائه الحقيقي للقبيلة أكثر منه للوطن، لذا يظل التزامه القسري بالعرف، النابع من الثقافة التقليدية، بينما تظل علاقته بالقانون النابع من الثقافة الوطنية علاقة غير ملزمة، أخلاقياً، فلا يزال الطابع القبلي هو المهيمن، لعدم تفعيل القانون من جهة، ولضعف برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية من جهة ثانية، بما يعيق إمكانية تحرر الفرد من أسر الثقافة التقليدية، من جهة ثانية. فالتنمية السياسية كواحدة من أهم ركائز الحداثة تقوم على التنوير, أي على تحرير إرادة الإنسان وتفكيره من المضاف الاجتماعي ومن كافة أنواع السلطات التي تحول دون إدراك الفرد لحقوقه، ليتحول الفرد من كائن مسوس إلى مواطن سياسي، وهذه العملية تتطلب التخلص من الأمية بشقيها الكمي والنوعي، فمن الشروط التي قلما تتهيأ من دونها فرص التغيير، وجود التربية والتعليم التي تهدف إلى الارتقاء بقدرات وملكات الفرد، ووجود الإعلام الحر. فالتنشئة السياسية عملية تبدأ من المهد وتخضع لمعايير وأهداف يرسمها النظام السياسي بما يلبي طموحاته ويخدم مصالحه، فبدلاً من السعي لخنق القدرة على الابتكار والإبداع والإنتاج تحرص الأنظمة السياسية الحديثة على تنمية الحقوق والحريات بما يعزز نمو المهارات والقدرات ويهيئ الفرد لمطالب التغيير المتواصل، وفي مجتمعاتنا العربية ما تزال الأساليب التقليدية في التربية والتعليم هي الطاغية ولا تزال المدرسة المؤسسة الأولى لتطبيع الأفراد على الخضوع والخنوع والطاعة والاستسلام، من خلال القمع المادي والمعنوي وقتل الرغبة في المبادرة والمبادأة والاختلاف، إلا أن الإنصاف يدفعنا إلى الاعتراف ببروز بوادر حثيثة تسعى، حالياً، لتخطي هذا النمط من التنشئة. كما أن التعليم الجامعي طغى فيه التطور الكمي على الاعتناء بالمعايير الكيفية، فمساحة الحريات تتقلص أكثر فأكثر، من خلال القيود التي تضعها اللوائح الأمنية، خصوصاً فيما يتعلق منها بالأنشطة السياسية للحركة الطلابية، مما ينذر بتراجع مساحة الإبداع والتغيير، ويعمل على خلق جيل من المواطنين المسالمين والوادعين ، الخانعين والمستهلكين . فالقمع الذي تتبعه الثقافة العربية في التنشئة الاجتماعية والسياسية، يدفع الأفراد إلى عدم الاعتداد بآرائهم وأفعالهم، وبالتالي مواصلة الاعتماد على الكبار، وتلاشي فرص الإبداع وتراجع القدرة على الابتكار التي يحتاجها مجرى التطور الاجتماعي ومسار تطور حقوق الإنسان. (ففي مرحلة المراهقة يتجلى الاستعداد للتمرد ، ومن هنا فإن الأفراد في هذه السن عادة ما يكونون تحت رعاية ورقابة شديدين من كافة أجهزة الضبط الاجتماعي وخاصة الأسرة والمدرسة ووسائل الاتصال الجماهيري . فالرقابة الاجتماعية الصارمة والضبط المحكم يعيق مجرى التطور من خلال تدمير بوادر الإبداع والتمرد والرفض التي تتجلى في شخصية المراهق، وتأتي هذه التنشئة القمعية تعبيراً عن وقوع المجتمع بأسره تحت ربقة الاستبداد، ابتداء باستبداد الرجل بالمرأة والأب بأبنائه والأخ بأخته إلخ. ففي اليمن كما في غيره من المجتمعات العربية تسود التربية القائمة المعتمدة على التلقين ، بما يؤدي إلى تصفية مظاهر الإبداع وقهر معاني الابتكار ، وهي في كل هذا تسعى إلى ترسيخ قيم أيديولوجية سياسية تصطفي في نهاية الأمر بعض النخب الاجتماعية التي ترهب كل مظاهر التطور والحداثة في دائرة المجتمع، فصائغي العقيدة السائدة هم في الأخير من يظفرون بثمارها . وعلى حد تعبير على أسعد وطفة (لقد آن لنا أن نعترف بأننا نقتل في طلابنا كل إمكانيات التفكير والإبداع وأننا نعمل على محاصرة العقل والإجهاز على بقية الومض فيه، ونحن نستخدم كل إمكانيات ما يسمى بالمنهج الخفي في سبيل تحطيم كل الإمكانيات الإبداعية عند الطلاب ، ونجتث في قلوبهم كل مشاعر الحرية ونحاصرهم بسلاسل الامتحانات التقليدية ، ونضع في أيديهم أصفاد العبودية العقلية والفكرية ، بتلقينهم ما يجب قوله في الامتحان ، ونمنعهم من حرية الرأي . ونقهر فيهم كل حرية في القول والتعبير عن الرأي). وحتى لا تظل الفلسفة التربوية وسيلة لتدجين المجتمع وتجيير الوعي بعيداً عما يخدم المصالحة العامة ويحقق أهداف الثورة اليمنية، ينبغي أن تأتي التربية تجسيداً للثقافة العامة وتلبية للأهداف المعبرة عن الإرادة العامة ، فتعترف بإنسانية الإنسان وتحرص على رعاية حقوقه و مواهبه وطاقاته.