هل المواطنة «وظيفة»، أم «واجب»؟ وهل هي صفة «فطرية» تُخلق من الإنسان وترتبط بوجوده في مجتمع ما، أم أنها «مكتسبة»، وربما متبدلة ومتغيرة بتغير المصالح، وتبدل الأمزجة؟ وإذا كانت المواطنة شيئاً مكتسباً، فهل للتعليم ومؤسساته المختلفة علاقة ما بالأمر؟ أ.د طارق أحمد المنصوب * وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فما الدور المطلوب من مؤسساتنا التعليمية لترسيخ القيم المتصلة بالمواطنة؟ أسئلة كثيرة أثارتها، ولا زالت تثيرها أحداث الفتنة والتمرد الحوثي التي عرفتها مدينة صعدة اليمنية، والتحالفات المشبوهة التي فضحتها هذه الأحداث داخلياً وخارجياً، كما تثيرها بعض المواقف وردود الفعل غير الموضوعية التي عبرت عنها بعض القوى السياسية والاجتماعية من هذه الأحداث، والتصريحات غير المسئولة التي تناقلتها وسائل الإعلام لأفراد يربطهم بهذا الوطن رابط المواطنة القانونية، أي الجنسية اليمنية، لكنهم وجدانياً ربما يكونون بعيدين بمسافات الأفعال والأقوال عن أدنى شعور أو إحساس بالانتماء أو المواطنة. وقع بين يدي كتاب لا أبالغ إن قلت إنه غاية في الأهمية بعنوان «التعليم والمواطنة: واقع التربية المدنية في المدرسة المصرية»، لمؤلفه «مصطفى محمد قاسم»، والأمر لايتعلق فقط بأهمية ما ورد في هذا الكتاب من أفكار ومعلومات تهم كل مربٍ أو متخصص في التربية والتعليم، بقدر ما يتعلق بأهمية الموضوع الذي يطرحه الكتاب، والتصورات التي يقترحها، وخاصة في ظل الظروف الحرجة التي يمر بها وطننا مع تنامي حدة التحديات الداخلية والخارجية، وتزايد المشاعر والولاءات العصبية والقبلية والمناطقية الضيقة، التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل تشكل الدولة الوطنية، والولاء الوطني، وهي الولاءات التي نعتقد أن نظامنا التعليمي إلى جانب باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية يسهم بشكل مباشر في زيادتها، بالنظر إلى عجزه عن خلق ثقافة سياسية جديدة وبديلة عن الثقافة الشمولية السابقة، حتى تواكب التطورات السياسية التي شهدها المجتمع اليمني نتيجة الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي التعددي، بعد إعادة تحقيق الوحدة الوطنية. في مقدمة الكتاب يشير «مصطفى قاسم» إلى أن «تغيير المجتمعات بالمعنى العام لايمكن أن يكون إلا بتغيير البشر، وتغيير البشر لا يمكن أن يكون إلا بتغيير الذهنية، وأنماط القيم السائدة في المجتمع، ولم يكن من الغريب أن يحتل التعليم مكانة متميزة في قلب كل مبادرات الإصلاح السياسي التي طرحت في مجتمعاتنا العربية، سواء تلك التي نبعت من الخارج أم من داخل المجتمع العربي، بالنظر إلى أن الإصلاح يهدف في نهاية المطاف إلى تصويب وتقويم العلاقة بين الدولة والمحكومين داخل مجتمعاتنا العربية، ولأن الإصلاح يصعب تحقيقه دون صقل وتهذيب وتقويم الإطار الثقافي المتحكم في تلك العلاقة، بما يتضمنه من قيم واتجاهات وأفكار ومهارات وأنماط تفكير تمثل في النهاية منهجية العلاقة بين الجماهير والنخب الحاكمة، وتحويل الفرد إلى مواطن لا يتم إلا بتحرير ذهنه من أقفاص الذعر والتقديس والاستسلام والخضوع. تطرح الفقرة السابقة عدداً من العلاقات الإشكالية، منها: العلاقة بين الفرد المواطن والدولة، والعلاقة بينه وبين الحاكم، وأهمية التزام الحاكم بالقوانين والتشريعات والمواثيق الدولية، ومكانة التعليم والتربية في مبادرات الإصلاح السياسي، وأخيراً ضرورة الوعي السياسي في ترسيخ وتعزيز قيم المواطنة، وهو الوعي الذي يمكن أن يتطور ويدَّعم بالتربية على قيم المواطنة الحق، وهذه التناولة ستتطرق إلى العلاقة الأخيرة أي التربية على قيم المواطنة. فهناك شبه إجماع بين الباحثين على أن مسألة «المواطنة» احتلت مكانة متميزة في صلب نقاشات واهتمامات عدد من السياسيين والباحثين المهتمين بالتطورات التي تعرفها بعض مجتمعاتنا، وخاصة عقب التطورات التي عرفها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي مروراً بأحداث التفجير في 11سبتمبر 2001م، وفي هذا الصدد يشير «توريس Torres» إلى أن مسائل المواطنة والديمقراطية والتعددية الثقافية توجد في قلب النقاشات الجارية على مستوى العالم حول الإصلاح التعليمي بشكل يجعلها تؤثر على معظم القرارات المتعلقة بتحديات التعليم المعاصر، ونتيجة لذلك يجمع الباحثون والمهنيون التربويون من خلفيات متنوعة حول إيمان مشترك بضرورة إعادة التفكير في التدخل التعليمي لمواجهة قضايا المواطنة، والعرق، والإثنية، والثقافة، والنوع. وفكرة «المواطنة»، كما تشير كثير من الأبحاث والدراسات ليست بالفكرة الحديثة بل تعود إلى عصر الدولة المدينة في الحضارة اليونانية القديمة، ومنذ ذلك الوقت تطورت وتعمقت مساحة المشاركة الديمقراطية، وعرفت عبر التاريخ القديم والحديث المعاصر عدداً من التطورات التي عمقت من مفهوم المواطنة القائمة على أساس المساواة الكاملة في الحقوق السياسية بين المواطنين باختلاف النوع والمكانة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وكذا باختلاف العرق، وغيرها من الفروق والتمايزات التي ظلت ردحاً طويلاً من الزمن تشكل في الحاضر بؤرة للشقاق والصراع السياسي والاجتماعي. ويذهب بعض الباحثين إلى أن المواطنة التي تعد وظيفة يتحتم على المواطنين القيام بأعبائها ومسئولياتها ليست بالشيء الجديد؛ إذ تم إدراكها وإقرارها منذ زمن بعيد؛ حيث تعود لزمن اليونانيين والرومانيين، بل إن المواطنة في المجتمعات الحديثة ترتبط بمسألة التعددية الثقافية والتنوع القيمي، وما ينتج عنها من مشكلات تتعلق بالتماسك الاجتماعي. إن المجتمعات الحديثة تتميز بالتنوع الثقافي الكبير وهو يستلزم التعايش بين عقائد دينية وعرقية، وأيديولوجية مختلفة، إلى جانب ما تحدثه العولمة من تأثيرات تخللت طرق الحياة التقليدية، بشكلٍ غير مسبوق، حتى لم يعد أمام الناس بديل عن الوعي بطرق الحياة والقيم والمعتقدات البديلة، والتعايش معها، وهذا يحيل إلى ضرورة خلق مجتمع مفتوح «بحسب تعبير كارل بوبر» يشجع العامة وليس فقط الفلاسفة والمفكرين، على دراسة معتقداتهم ومعتقدات الآخرين، وبحثها بطريقة عقلانية. إذن، فقد أصبحت المواطنة في عصرنا الحاضر تقوم على أساس العضوية الفاعلة والمشاركة النشطة في جماعة ما، كما تتضمن الإحساس بالارتباط والولاء لمفهوم الدولة أو النظام المدني، وهي تقوم على فكرة الانتماء والأشياء المشتركة، إذ المواطنة بذلك تعني العضوية النشطة في مجتمع سياسي في إطار من الحقوق والمسئوليات التي يحددها الدستور والقانون. وعليه.. فلا يمكن لعاقل أن يساند أو يشجع ممارسة تلك الحقوق خارج إطار الدستور والقوانين النافذة في المجتمع أياً كانت الدوافع والمبررات، كما لايمكن أن يقبل أن تقوم الدولة بالاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم المدنية والسياسية، وغيرها، ولذا تصبح الحجة المعتمدة على وجود خروق تطال حقوق الإنسان، وانتهاك المواثيق الدولية لتلك الفئة من الناس الخارجين عن القانون، والمعتدين على حقوق المواطنين الآخرين، أقول تصبح حجة داحضة وباطلة، وذرائعية تبحث عن إلباس تلك الفتنة لباساً «حقوقياً» تغطي حقيقتها المتمثلة في كونها «عملاً إرهابياً، وخرقاً سافراً للقانون، تقوم على التعصب والطائفية، والرغبة في إحداث الفتنة في مجتمعنا اليمني»، وكان المفترض من مؤسساتنا المدنية والتعليمية أن تقوم بوظيفتها كوسيط محايد، وأن تقوم بدورها في التوعية والتربية على المواطنة التي لها شقان: حقوق يقابلها واجبات والتزامات بالولاء والطاعة للدولة ولقوانينها، واعتماد أساليب التغيير والتطوير والحوار السلمي والحضاري، ونبذ أساليب العنف بكافة صوره وأساليبه، وأياً كان مصدره. «ü» جامعة إب