ما من شك في أن النظام الديمقراطي الذي تم الإعلان عن ولادته في الثاني والعشرين من مايو 1990م قد شكَّل طفرةً نوعية، فعلى الصعيد السياسي، ومنذ اليوم الأول، تجلت أصالة هذا المشروع في قدرته على استقطاب التفاعل الجدِّي للجماهير وللقوى السياسية المختلفة، التي بادرت إلى الإعلان عن أحزاب سياسية فاقت، حينها، الأربعين حزباً، كما شرعت الفئات والجماعات والشرائح الاجتماعية داخل المجتمع في الإعلان عن تكوينات اجتماعية جديدة تجلت في ظهور الآلاف من منظمات المجتمع المدني، وقبل هذا وذاك، ظهرت ملامح الدولة الحديثة، دولة المؤسسات، التي عبر عنها الدستور، وتغير فيها مفهوم الشرعية التي يتمتع بها الحاكم من شرعية كاريزمية مرتبطة بالدفاع عن الثورة وحماية مكتسباتها وتحقيق أهدافها إلى شرعية مرتبطة بالانتخاب الديمقراطي، لرئيس الجمهورية ولنواب الشعب في السلطة التشريعية، من قبل مواطن يمتلك إرادة حرة، إلا أن هذه النقلة النوعية المتمثلة في التجربة الديمقراطية، والتي تجاوزت الواقع وما يحمله من إرثٍ ثقافي ثقيل، مرتبط بمراحل تاريخية طويلة من الحكم الشمولي، ومع الاعتراف بمستوى الإنجاز التاريخي والحضاري الذي تحقق، إلا أن النخب السياسية حصرت جُل اهتمامها في توفير مظاهر الديمقراطية، المتمثلة في الأحزاب السياسية و منظمات المجتمع المدني المختلفة وحرية الرأي..الخ وغضت الطرف عن الشروط الموضوعية لاستنبات الديمقراطية كتغيير منظومة الثقافة السياسية التي من شأنها الإسهام في ترسيخ القيم الديمقراطية التي تضمن لهذا المشروع السياسي ديمومته واستمراريته، استناداً إلى الدور التنويري لمنظمات المجتمع المدني، من خلال التنشئة الديمقراطية المستمرة للأفراد والتي لا تنفصل عن الممارسة الديمقراطية السليمة، فعقب الإعلان عن التعددية السياسية سادت أجواء التصالح بين الثقافة التقليدية وبين التوجهات الديمقراطية، وتحت تأثير قوة التوجهات الديمقراطية تراجعت الثقافة التقليدية أو ظلت في حالة كمون منضويةً تحت لواء التوجهات السياسية الجديدة، المناهضة لها، ولأن المشروع الديمقراطي كان على هذه الدرجة من القوة فلم يكن أمام أنصار الثقافة التقليدية سوى القبول به ولو على سبيل (التُقية) إذا جاز لنا استخدام لغة جعفر الصادق، ولأن هذا الفريق قد شعر، أكثر من غيره بأن مصالحه باتت مهددة فلم يأل جهداً في النفوذ من خلال مسامات البناء الديمقراطي، متحيناً الفرصة السانحة للانقضاض على التجربة الديمقراطية التي يعتقد خاطئاً أنها اليوم ليست، بأفضل حال من الأمس. إلا أن ذلك لا يعني ذلك أن التجربة الديمقراطية في بلادنا جاءت قبل أوانها، فالقيادة السياسية التي قررت حينها طي مرحلة التشطير، امتلكت رؤية ثاقبة في قراءة المتغيرات المحلية والدولية، ومن هنا كانت الوحدة والتعددية السياسية بمثابة الرد الطبيعي على مختلف التحديات، فبعد أن كادت النظم السياسية الشطرية أن تستنفد مبررات بقائها، ومع العجز عن الوفاء بمتطلبات التنمية، صار الاعتراف للمواطن بجزءٍ من حقوقه السياسية أقل ما يمكن تقديمه، في ظل تعذر استمرار الاعتماد على الارتباط بالخارج لتجاوز الأزمات، ومن هنا فقد صار إصلاح الداخل والتصالح معه، أمراً لا بد منه، فهو وإن لم يمثل طوق نجاة، فعلى الأقل، سيقلل من حجم المسؤولية عن أي إخفاق اقتصادي وتنموي، إضافة إلى تأثيره في تليين مصادر العون الخارجي، ليس فقط بجرأته على تقديم النموذج الديمقراطي الرائد على مستوى المنطقة، بل لِمَ باتت تشكله اليمن الموحد من أهمية على المستويين الإقليمي و الدولي، بموقعها الاستراتيجي على مساحة مترامية بالقرب من أغنى منطقة نفطية في العالم و إشرافها على ممرات مائية في العالم، إلا أن تغيير النظام السياسي لم يواكبه تغيير مماثل في النظام الاجتماعي والثقافي، فعلى الصعيد الاجتماعي أسهم البناء القبلي في إعاقة تبلور الثقافة السياسية الحديثة، لارتباطه بالولاء التقليدي القائم على فكرة القرابة أو الانتماء القبلي، مما أسهم في تشويه الأشكال الاجتماعية الجديدة التي ترافقت مع ظهور الديمقراطية، بما فيها الأحزاب السياسية والجمعيات والاتحادات، التي يتطلب تفعلها تجاوز الترابط العمودي القائم على الانتماء القبلي، إلى الترابط الأفقي القائم على الانتماء للوطن. وعلى الصعيد الثقافي لم يحدث التغيير الكافي على مستوى الدور الوظيفي لمؤسسات التنشئة السياسية بما يسمح بالتغلب على تأثير مفاعيل الإرث الثقافي الثقيل، لثقافة شمولية تمتد جذورها مئات السنين، ومع الاعتراف بحدوث نقلة نوعية في النظام الثقافي الذي تزامن مع إعلان التعددية السياسية، إلا أن مستوى التغيير الثقافي لم يكن بالقدر الذي يكفي لتجاوز حالة اللاحسم الثقافي، بشكلٍ يمكن معه الاطمئنان على مستقبل الديمقراطية، فعلى الرغم من تغيير النظام السياسي من الشمولية إلى التعددية و المؤسسية، والمساواة أمام القانون، وتجديد الدستور والقوانين المحددة لعلاقة المجتمع بالدولة، إلا الدستور والقوانين المنبثقة عنه ظلت، في معظمها، شأناً نخبوياً، أكثر منها وازعاً أخلاقياً وضميراً جمعياً، ومع الإقرار بجهود الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمنهج المدرسي في السعي لبلورة ملامح الثقافة السياسية الجديدة، التي توضح الحقوق والواجبات وأهمية المواطنة المتساوية وما رافقه من بزوغ بوادر العمل المؤسسي، إلا أن هذا لا يعني التخلص من أعباء الثقافة الشمولية التي تميل إلى التفرد بامتلاك الحقيقة والنزوع إلى الهيمنة والاحتكار، المرشحة للتزايد في ظل الشح في الموارد وما يترتب عليه من تقلص هامش الانفتاح نحو الجماهير وإعانتها والاستعانة بها، ففي السلطة والمعارضة، لم تتخلص الأحزاب السياسية من ازدواجية المعايير نظرياً وعملياً، فالازدواجية القائمة على التناقض بين الأقوال والأفعال بحاجة إلى عمليات جراحية عميقة للثقافة الراهنة من خلال التربية الحديثة والإعلام الحر وتهيئة المجتمع لظروف سياسية استثنائية تتلاحم فيها توجهات النخب السياسية بتوجهات العامة، لتتكامل جهود الخاصة بالعامة ويتبلور الشعور بالمواطنة المتساوية ويتعمق الإيمان بالديمقراطية، ويلمس المواطن ثمار الديمقراطية بشكلٍ أكبر، لتتبلور قيم الديمقراطية في المخيال الاجتماعي، حتى لا يظل الحرص على الديمقراطية، في معظمه، محصوراً في إطار النخب المثقفة والحزبية. كما أن مستوى التغيير الذي طرأ على البنى الاقتصادية كان دون المستوى المطلوب لتحرير إرادة الفرد من التبعية للقبيلة، حيث تعايشت أنماط الإنتاج القديمة والحديثة، الأمر الذي أعاق التطور الطبيعي المطلوب لتبلور ثقافة سياسية حديثة، تعمل على خلق شعور بالمواطنة والولاء للقانون، حتى لا يتحول التنافس الحزبي إلى تنافس قبلي يهدف إلى المحافظة على بقاء التوازنات التقليدية، لعجز منظمات المجتمع المدني عن إشباع حاجة الفرد للانتماء، من خلال منحه للانتماء المكتسب في منظمات عصرية بديلة للنظم التقليدية، فعملية الفرز الاجتماعي، في معظمها، غير خاضعة لأسس اقتصادية وسياسية وثقافية بقدر ماهي خاضعة لاعتبارات قبلية ، مما يعيق تبلور ثقافة سياسية تتجاوز مرحلة اللاحسم الثقافي والتذبذب بين التقليدية والحداثة. ويمكن القول: بأن التنشئة السياسية ظلت، في معظمها، محكومة بما تسمح به آفاق التغيير الاقتصادي والاجتماعي الممكنة. لتتجلى الثقافة السياسية الحديثة، ولكن في حدود ما تحقق من تغيير على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، لذا لا تزال الثقافة السياسية تتسم بالتأرجح بين التقليدية والحداثة، والشمولية والتحرر، بما يجسد الواقع اليمني والعربي عموماً حيث يتعايش الماضي والحاضر.