فاعلية النظريات والأفكار التي تتبناها الأحزاب السياسية تتوقف، إلى حدٍ كبير، على مهارة النخب الحزبية وقدرتها على تغيير الواقع يتسم البناء التنظيمي داخل الأحزاب السياسية في اليمن بالهشاشة، بما يحد من عملية ارتباط هذه الأحزاب بالجماهير، نتيجة لتراجع دور الأحزاب السياسية عن القيام بالكثير من الوظائف التنظيمية المناطة بها، ومسؤولية حدوث أي قصور في الأداء التنظيمي ترتبط، هي الأخرى بعدم تفعيل بعض الأدوار التنظيمية، فالنخب الحزبية، هي الفئة المسئولة عن تغيير الواقع بما يلبي الطموحات. فمن المعلوم أن البناء التنظيمي يعمل على توجيه التنافس وجهة سلمية بما يجنب المجتمع إهدار الطاقات والإمكانات ويجنبه السقوط في الأشكال السلبية من التنافس والصراع، ومن خلال العمل التنظيمي تخرج الأفكار والمقولات الحزبية إلى حيز التطبيق، لاختبار مدى واقعيتها، وتعديل بعض المفاهيم وفقاً لمقتضيات الواقع، والإسهام في نشر الثقافة السياسية الحديثة وتصحيح الممارسة السياسية وتعديل السلوك السياسي للأعضاء، لحرص كل حزب على الوصول بأدائه التنظيمي إلى المستوى التنافسي الذي يكسبه التأييد الشعبي اللازم للفوز وفق معايير تنظيمية، فعبر البناء التنظيمي يتم ترجمة الثقافة الوطنية، إلى خطاب وطني، يهدف إلى تعزيز قيم المواطنة المسئولة، لضمان الالتزام بالثوابت الوطنية، و ضمان المنافسة السياسية السليمة، وفق قاعدة مشتركة من القيم الوطنية، بما يعزز السلم الأهلي والاجتماعي ويوفر المناخ الملائم للممارسة الديمقراطية. ويرافق هذا الخطاب الوطني بناء تنظيمي، يعتمد على ترجمة الثقافة الحزبية إلى خطاب حزبي، ولأن تأثير الخطاب الإعلامي الحزبي في مجتمعنا يكاد ينحصر في حدود انتشار قراءة الصحف الحزبية فمن المستبعد أن يصل الخطاب الإعلامي للصحف الحزبية لكل عضو من أعضاء الحزب أو من مناصريه، أو لكل عنصر من عناصر القوى السياسية الأخرى، لذا تأتي أهمية تفعيل الأدوار التنظيمية داخل الأحزاب السياسية على مختلف المستويات، من أجل القيام بمهام التنشئة السياسية، فهذه القيادات التنظيمية هي المعنية بقراءة الواقع، باحتياجاته المختلفة، وبتداخل تكويناته الاجتماعية والسياسية، انطلاقاً من مسؤولياتها ومواقعها التنظيمية التي تقتضي توظيف الثقافة الوطنية و الحزبية- لهذه القيادات التنظيمية- في عملية التنشئة السياسية، فنجاح النخب الحزبية في هذه المهمة، وفي عملية الاستقطاب، هو المحك العملي لنجاح العمل التنظيمي، لأن أدوارهم هي الركيزة الأساسية التي تعول عليها الأحزاب في تغيير الواقع، وهم المعنيون بوضع سياسات الأحزاب ونظرياتها وبرامجها موضع التنفيذ، والمعنيون بفهم ما يدور في الواقع وتقديم صورة مطابقة له إلى المستويات القيادية العليا في الأحزاب، وتزداد الحاجة إلحاحاً إلى أدور النخب الحزبية في ظل الصعوبات التي تحد من التربية الوطنية الفاعلة للأفراد في البيت والمدرسة و مختلف المؤسسات المسئولة عن التنشئة الوطنية. فمن غير المبالغة القول بأن فاعلية النظريات والأفكار التي تتبناها الأحزاب السياسية تتوقف، إلى حدٍ كبير، على مهارة النخب الحزبية وقدرتها على تغيير الواقع انطلاقاً من الشعور بأهمية أدوارها وبحجم مسؤولياتها التنظيمية ، فالعمل الحزبي عمل مؤسسي يرتبط نجاحه بتفعيل الأدوار وتكاملها، وبتعزيز الشعور بالولاء الحزبي بين منتسبي الحزب على المستوى الأفقي (بين أعضاء الحزب وبعضهم من ناحية، وبين القيادات الحزبية ذات المواقع المتشابهة من ناحية ثانية) و على المستوى الرأسي( ابتداءً من عضو الحزب وصولاً إلى قمة الهرم الحزبي) وكما أن الولاء مطلوب من أدنى إلى أعلى هو كذلك مطلوب من أعلى إلى أسفل. وباكتمال البنى التنظيمية للأحزاب السياسية يصبح بإمكان هذه الأحزاب القيام بمهامها، كما يرتبط نجاح العمل الحزبي بمدى قدرة القيادات التنظيمية، بمستوياتها المختلفة،على توظيف ثقافتها الوطنية والحزبية بما يخدم توجهات أحزابها، كمقدمة لتغيير الواقع، و توسيع دائرة الاستقطاب على المستويين الكمي والكيفي، لرفد الحزب بالكوادر القادرة على تفعيل الخطاب الحزبي بما يسهم في تجديد الأفكار والمقولات التي يتبناها الحزب- في ظل واقع آيل للتغيير- لتتوافق مع ما قد يطرأ على طريقة تفكير الناس، جراء التغيير في أساليب المعيشة، أو نتيجة لدخول عناصر تكنولوجية جديدة إلى حياتهم، فالأفكار والمقولات الحزبية التي كانت صالحة فيما مضى قد لا تبدو اليوم على نفس الدرجة من الصحة، الأمر الذي يتطلب تجديد الخطاب الحزبي، بما يقود إلى تعديل الرأي العام وفقاً لما تقتضيه المصلحة الوطنية و الحزبية، وتحديد مطالب الواقع الأكثر إلحاحاً ، تمهيداً لوضع الخطط التي تعكس طبيعة الحلول الممكنة، باعتبار أن المواطن هو صاحب المصلحة في اختيار الحزب الأجدر والأقدر على خدمته، خصوصاً و أن شعبية الحزب بين المواطنين هي المنفذ الأهم لبلوغ أهدافه. فالعمل التنظيمي الذي يحقق النجاح، يتطلب تقديم أقصى ما يمكن من الخدمات العامة والخاصة للهيئة الناخبة، لكسب تأييدها ولضمان الاستقرار والسلم الاجتماعي، من خلال توجيه التنافس السياسي وجهة سلمية وعقلانية، وتعميق قيم التعاون الذي يعزز الشعور بالانتماء الحزبي بين الأعضاء ويعمق الشعور بالولاء الوطني في أوساط المجتمع، بما يمنع التصعيد مع الخصوم، لإخماد بذور الكراهية و وقاية المجتمع من مغبة السقوط في الفتن. إذ تظل الأحزاب السياسية هي وسيلة التنوير السياسي والمعنية أكثر من غيرها بتطور مستوى الثقافة السياسية من الإطار التقليدي القائم على اللواءات العمودية الضيقة، إلى الإطار الحداثي المعبر عن مصالح شرائح اجتماعية واسعة، و يفترض أن يتجلى هذا الدور التنويري للأحزاب السياسية، ليس فقط من خلال البرامج السياسية والأدبيات الحزبية والخطاب الإعلامي الحزبي، بل وفي الوقت نفسه، من خلال السلوكيات الحزبية النابعة من ثقافة سياسية حديثة، وممارسات سياسية سليمة للديمقراطية داخل الأحزاب وفي إطار العمليات الانتخابية المتوالية ، كما يتجلى الدور التنويري من خلال المواقف الحزبية تجاه القضايا الوطنية المختلفة، والتي تعد المحك الحقيقي لمعرفة مدى أصالة الخطاب الحزبي الذي تتبناه هذه القوى السياسية، وموقع الثقافة الوطنية منه، فالتحولات الهامة والمنعطفات التاريخية التي يمر بها الوطن ستسهم- دون شك- في عملية إعادة فرز للقوى السياسية القادرة على البلوغ إلى مستوى النهج الوطني، فالتعامل مع مثل هذه الأزمات سيسهم في تعرية المشاريع (الحزبية) الهشة ويضع القوى السياسية والحزبية الفاعلة أمام مسؤوليات وطنية من شأنها تحديد موقع كل حزب سياسي في خضم الحركة الوطنية، ولن يتسنى ذلك دون تفعيل البناء الحزبي، فمن خلال تنمية الشعور بالانتماء إلى حزب سياسي معين كإطار تنظيمي لممارسة السياسية وتحقيق الذات عبر تحقيق أهداف الحزب، يلتزم الأعضاء بواجباتهم التنظيمية على النحو المطلوب، في ظل معايير واضحة تضمن حصولهم على حقوقهم الحزبية، كما أن توحيد الجهود داخل الحزب و خلق روح التعاون والعمل الجماعي يسهم في تعزيز الترابط بين أعضاء الحزب، بوجود معايير واضحة لتقييم الأداء التنظيمي للقيادات الحزبية وللأعضاء. و يرافق الشعور بالولاء الحزبي التمسك بالمنطلقات النظرية أو الأيديولوجية التي يستند إليها الحزب، و الإيمان بعدالة القضايا التي يتبناها، وموقفه من المشكلات التي تعتمل في الواقع. وهنا يأتي دور القيادية التنظيمية الأكثر قرباً من الواقع، للقيام بفلسفة التوجهات النظرية والعملية لأحزاب إلى خطاب حزبي، يترتب عليه التفاعل الخلاق مع الواقع تمهيداً لتغييره، باعتبار أن الواقع هو المحك الرئيسي للعمل التنظيمي فهو الساحة الرئيسية لاختبار مدى فاعلية الأفكار والمقولات السياسية التي تتبناها الأحزاب، كما أنه مصدر من مصادر توالد المقولات و الأفكار. فالخطاب الحزبي وسيلة للتثقيف الأيديولوجي للأعضاء، تنطلق من الأهداف العامة للحزب، وتقدم رؤية الحزب للتنافس مع خصومه على كسب تأييد الجمهور، إذ يتضمن الخطاب، التعبير عن التوجهات النظرية للحزب، كما يتضمن تقديم الإجابات للكثير من التساؤلات التي تطرحها المستجدات، انطلاقا من موقف كل حزب، لتجنب احتمالات التفسير المضلل الذي يقع الرأي العام ضحية له. لذا فإن الانطلاق من العمل التنظيمي، المستند إلى الثقافة الوطنية والثقافة الحزبية هو الوسيلة الفعالة لصياغة الرأي العام ، في ظل التغيرات الديمغرافية التي جعلت من شريحة الشباب أغلبية داخل المجتمع، بما تعنيه هذه الشريحة من ميل إلى التأطر واستعداد لاعتناق الأفكار والمقولات بوعي أو من دون وعي، فهذه الفئة الاجتماعية الواسعة، لم تستهدف من قبل النخب الحزبية بخطاب وطني و آخر تنظيمي، حتى لا تقع تحت تأثير الأفكار الأصولية المتطرفة. ومما لا شك فيه أن ظهور الحزبية في اليمن قد أسهم بشكل أو بآخر في بلورة نوع من الثقافة السياسية الحديثة، بما ترتب عليه من إدراك لطبيعة الحقوق والواجبات وأهمية المواطنة المتساوية وما رافقه من بزوغ بوادر العمل المؤسسي، لذا فإن النخب الحزبية، على مختلف المستويات، مطالبة بتبني الخطاب الوطني الذي يضع المواطن أمام مسؤولياته، ويدفع الأعضاء داخل الحزب للقيام بأدوارهم التنظيمية، استعداداً لتهيئة المجتمع لظروف سياسية استثنائية، تتلاحم فيها توجهات النخب الحزبية بتوجهات العامة، و تتكامل جهود الخاصة بالعامة ليتبلور الشعور بالمواطنة المتساوية، فالملاحظ أن الأحزاب السياسية لم تبذل جهوداً كافية للارتقاء بالممارسة السياسية، بما يتناسب مع أجواء الديمقراطية و ثقافة التسامح والاستعداد للقبول بالرأي الآخر، حتى يتسنى للثقافة السياسية الانطلاق من عقيدة سياسية واضحة، وتزداد أهمية الدور التنويري للأحزاب في ظل مجتمع مفتوح أمام مصادر تثقيف كثيرة ومتنوعة تقتضي اليقظة التنظيمية المستمرة لتفعيل دور الثقافة الوطنية في بلورة شخصية المواطن الصالح، بعد أن تعددت مصادر التلقين الثقافي للأفراد بما يجعل من مسألة تكوين رأي عام موحد إزاء الكثير من القضايا الوطنية مسألة غير يسيرة في ظل واقع شديد التعقيد، ومصادر ثقافية شديدة التباين والاختلاف، إضافة إلى ما يشهده المجتمع من تغيرات ديمغرافية واسعة جعلت من فئة الشباب أغلبية داخل المجتمع بما تحمله هذه الفئة من استعداد للانضواء داخل أطر تنظيمية، وحاجة لما تقدمه الثقافة الوطنية من إجابة عن مختلف التساؤلات التي تشغل اهتمام المواطن. ومن هنا تأتي أهمية الخطاب الوطني القادر على خلق رأي عام موحد تجاه القضايا التي تشغل الجمهور، باتجاه اتخاذ مواقف تحقق في التحليل النهائي مصلحة الحزب الأكثر أهلية لكسب التأييد الشعبي وما يرتبط به من تعديل للرأي العام. فالاشتغال على صياغة الخطاب الوطني، يأتي تلبية لرغبة أفراد المجتمع في الملاحظة والتوصيف والتقسيم والتعريف، فالفرد يحب أن يعرف الأشياء في قوالب ثابتة لها من الجمع والمنع ما يمكنه من فهم حقائقها على نحو لا تلتبس فيه بعضها ببعض، ومن هنا تنبع أهمية الخطاب الوطني المتسق والمترابط ،لتحقيق التنمية السياسية المنشودة ولإشباع الحاجات المعرفية لأفراد المجتمع.