عندما دخل السيد رياض أستاذ الجامعة إلى غرفتي أثارتني معلوماته عن الحشرات فطلبت منه إطلاعي على عالم البعوض خاصة. فأحضر لي الرجل شرائح لقراءتها تحت المجهر. وأنا منذ زمن بعيد أمُني النفس باقتناء مجهر أدرس فيه العالم السفلي وتلسكوب أقرأ فيه عالم النجوم العلوي. ولم يكن أستاذ الجامعة يتصور أن الموت أقرب إليه من شراك نعله، فدخل غرفة العمليات لسبب تافه وكان المقرر أن تجرى له عملية منظار للركبة. ففارق الحياة قبل أن يلمسه مبضع الجراح. إن فشل أية عملية جراحية عند المريض هي قدر الجراحة والجراحين، وهناك نسبة فشل في أية عملية مهما صغرت وبنسب مئوية محددة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وكل طبيب يحترم نفسه يسلم بها، وليست موضعاً للشماتة أو التعجب. فقد يضحك طبيب على زميله في (اختلاط Complication) فيقع في اختلاط أبشع منه ومن عملية أبسط. فعلى المرء ألا يكبر كلماته ويتعلم التواضع وإن الله لا يحب من كان مختالا فخورا. والسؤال عن سبب فشل أية عملية يبقى فلسفياً اتمنى أن أجد الإجابة عليه يوماً بنعم أو لا وبكلمة محددة، فلا يمكن البت وبشكل قطعي ونهائي إلى سبب بعينه لفشل أية عملية جراحية. ويحزر الأطباء ويخمنون ويقولون إنه أقرب أن يكون السبب هذا أو ذاك،ولكن أي شيء يحدث في هذا الكون تتضافر فيه مجموعة معقدة من العناصر لتوليده، بما فيها (المضاعفات) الكريهة. وخلال عملي الطويل في جراحة الأوعية الدموية أجريت من العمليات بقدر الشعر الذي سقط من رأسي فلا أعدها وتبلغ الآلاف ولم يخطر في بالي المراهنة على سبب محدد وعلى نحو قطعي أنه خلف فشل عملية ما؟ ولا يعني هذا أننا فوق النقد ودون الخطأ بل نحن عباد الله الضعفاء الذين نجتهد فنصيب ونخطئ، ومن اجتهد فاخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران، ولكن لا توجد أية ضمانة لنجاح أية عملية جراحية سواء في جراحة الأوعية الدموية أو أية جراحة أخرى وعند أي مريض وبيد أي جراح. والعبرة أن يكتب الله العافية للمريض على يد أي طبيب، فهذا هو لب التوحيد، فالله هو الذي يشفي. «وإذا مرضت فهو يشفين» ويسخر لشفاء المريض من يشاء من عباده رحمة من لدنه، وفي الفشل يجب إجراء المزيد من المحاولات لوجود المزيد من عناصر التحدي الغامضة، وقد يكتب الله النجاح أو الفشل بأبسط سبب، وهذا من جملة العبر في استيلاء النقص على جملة البشر، وجراحة الأوعية الدموية مثلاً تجرى بعيون مجهرية تحت المكبرات وتلج عالماً دقيقاً يمشي فيه الجراح على الصراط المستقيم. إن قصرت القطبة الجراحية نزف المريض وإن زادت انسد الوعاء فانهار العمل على الطرفين،ومن يزعم لنفسه أنه سيمارس الطب بدون مضاعفات فلا يزيد عن واحد من ثلاث: إما أنه دجال لا يعي ما يقول، أو أنه طبيب لا يمارس الطب. فالعمل الطبي والمضاعفات تزداد طرداً مع كم العمل، وإما أنه يزعم أنه إله فوق الخطأ. ومن يقل منهم إنه إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين. والجراح الأمريكي المشهور كولي قال عن عمليات القلب الأولى التي أجراها كانت مليئة بالاختلاطات. ثم تناقصت وبقي تواتر الاختلاطات في الحدود المتعارف عليها دولياً. وأول عملية زرع قلب أجراها الجراح كريستيان برنارد مات مريضه بعد 18 يوماً من العملية. موعظة وذكرى للعالمين.