في اللحظة التي ولد فيها الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) عام 1712م في جنيف، كانت أمه في محنة كبيرة، تنزف على نحو خطير. ونحن الأطباء نعرف هذه الظاهرة جيداً، عندما يعجز الرحم عن التقلص بعد الوضع، ولا نجاة منها إلا باستئصال الرحم كله أحيانا.. وقصة الولادة معجزة إلهية، فلولا تقلّص الرحم واسترخاؤه ما نزل الجنين، ولولا الانقباض لماتت كل امرأة تلد.. وفي أنفسكم أفلا تبصرون. والمهم فإن أم الفيلسوف روسو في ظروف فرنسا البائسة من التخلف الطبي والفقر ماتت بعد ساعة من ولادة الفيلسوف، أما أبوه فكان منفياً من المدينة، وهكذا تعلم الفلسفة من المعاناة. . “ولد الناس أحراراً ولكنهم يرزحون في الأغلال في كل مكان”. . بهذه الجملة اشتهر هذا الرجل، مع أن معظم ماجاء به سبقه إليه كثيرون؟. وفي الواقع لمع هذا الرجل للطبيعة الحامية التي تميز بها، والكم الهائل من الأفكار الثورية التي قذفها الى ساحة الفكر، فهو يرى أن ما يغير الانسان هو الأفكار الاجتماعية والنفسية، أكثر من الفيزياء والكيمياء أو قوانين البيولوجيا. ومعظم تراثه الذي تركه صب في مجاري الاجتماع والسياسة والانثروبولوجيا والتربية والدين؛ فهو كتب في السياسة بعنوان (مقالة في أصل الظلم) عام 1755 م، وفي التربية (أميل) عام 1762م وهو من أجمل ما كتب في تربية الطفل، وفي علم الاجتماع (العقد الاجتماعي) الذي ذكر فيه “ أن القانون هو ماسطر على القلوب . كما كتب مذكراته الشخصية، وهي بحق ممتعة بعنوان (الاعترافات)، وأنا شخصيا تمتعت بقراءتها. ونقل عنه عالم النفس السلوكي (سكينر) بإعجاب فكرته عن توليد السلوك عند الطفل، وهي تقنية الداية أي القابلة في الولادة، فمن المهم للطفل أن نجعله يتصرف كما يريد، دون أن يدري أنه يعمل مانريد. كما تلد المرأة في الولادة بكبسها ولكن بتوجيه القابلة. وفي بداية حياته التمع اسمه مع المفكرين الفرنسيين المهمين مثل (فولتير) و(ديدرو) صاحب الموسوعة و(كالمبير) ولكنه احتلف بآرائه عنهم شيئاً فشيئاً، من خلال بعض الأفكار التي رأوا فيها تطرفاً غير مقبول؛ مثل قوله إن المدنية سيئة. وعندما سئل أي الاثنين كان له الدور الأكبر في تقدم الانسانية العلوم أم الفنون؟ كان جوابه كلاهما عمل على تخريب الانسان. ولذلك دعا الى العودة الى الطبيعة. وأجمل آرائه كانت في التربية حين نصح الأمهات بالالتصاق الجيد بأبنائهن، وأن يعيش الطفل في حضن أمه الى فترة طويلة، فيكسب الرحمة والحنان واحترام الحياة والثقة بالعالم والمستقبل، وشهد لهذا دراسات إيريكسون في علم النفس الارتقائي وأزمات التطور الثمانية. ومن أشد آرائه تطرفاً ما تبنته النظريات الفوضوية والشيوعية في نقض بنيان الدولة لأنها سبب كل فساد، والفوضوية هي حكم الجماعة بدون دولة وليست فوضى كما ترجمت خطأً، والأولى أن يقال مجتمع اللادولة كما دعا إلى ذلك تولستوي.. وعندما عثر على صبي (أفيرون) الوحشي من الغابة عام 1799م وكان غلاماً قد أهمل وترك للغابة يعيش فيها، استطاع أن ينجو من الموت، وخرج قوياً كالحيونات، لايعرف البرد والمطر والمرض، قال عنه روسو انظروا الى الطبيعة كيف تفعل بالانسان، وانظروا الى الحضارة ماذا تفعل بالانسان؟ حين تسلب منه كل مقاومة عضوية، وكل نور فطري، وليس منها سوى إفساد الانسان، وتلويث البيئة، وإشعال الحروب، وإفساد الصحة العامة. وفي الواقع فإن كلامه قسم منه صحيح، ولكن ولادة المجتمع لم تكن برغبة من الانسان بقدر الضرورة لذلك كما قرر ابن خلدون، ونحن في النهاية كائنات اجتماعية، ولولا المجتمع الفرنسي ما تطور روسو نفسه ولا نطق الفرنسية وكتب؟ ولم يكن عمل الانبياء والمصلحين في التاريخ يهدف الى تدمير المجتمعات بقدر الرقي بها..وهنا التحدي الأعظم. وفي الحديث المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لايخالطهم ولا يصبر على أذاهم.. ولد روسو عام 1712 م في مطلع القرن الثامن عشر في مدينة جنيف بسويسرا، ولم يكن ذلك الرجل الملتزم بعائلة وحياة مستقرة، بل عاش حياة بوهيمية ذكرها بالتفصيل في كتابه (الاعترافات) فعاشر الكثيرات وجاءه العديد من الأولاد غير الشرعيين، وبقي يتنقل من حضن امرأة لأخرى، وأنجب من الأولى (تيريز ليفاسير) خمسة أبناء غير شرعيين، أودعهم جميعاً ملاجىء الأطفال، ومات في نهاية حياته مكتئباً حزيناً بسبب نفور الناس من افكاره، والاضطهاد السياسي. وكان مماته عام 1778 قبل اندلاع الثورة ب 11 عاما ففاته هذا الفصل الممتع، والمقصة تهوي على الرؤوس فتطير؛ فقد عاد المجتمع الفرنسي إلى الطبيعة كما أراد؟؟..