تداعت الأيام وبدأت روسيا متوالية للسقوط الحر الذي نافس سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتقلت حمى الهرولة إلى الجنّة الرأسمالية التي تكشّفت عن وجه قبيح، فقد تبارى المأفونون واللصوص وتجار المخدرات والمافيات ليعيثوا فساداً في الاتحاد الروسي، وبالترافق الرياضي الجبري لتلك الانهيارات المتتالية كان يلتسن ينهار صحياً، ويستغرق في نسيان مشروباته الروحية غير عابئ بما يجري، ولكنه، وبالرغم من الضنى النفسي والجسدي كان كمن يرى الحقيقة بروحية ميتافيزيقية، مسترجعاً كامل خبراته السياسية وروحه الوثّابة الرافضة للقهر. هذه المرة لم يشأ يلتسن أن ينتصر لذاته النرجسية بل لروسيا، ولقد انتابته صحوة فاجأت العالم برمته يوم أن قرر تسليم مفاتيح الكرملين للفتى الروسي الناصع عسكرياً وأمنياً، والشاب المستقيم «بوتين»، وكأنه استخرجه من أضابير الرويّة السوفيتية القديمة. على حين غفلة من كل فرقاء الكرملين، وناهبي المال العام ، وبائعي المؤسسات السوفيتية العتيدة، استدعى يلتسن سلفه بوتين وسلمه مقاليد السلطة في خطوة بدت تبعاتها الرسالية لاحقاً. أراد يلتسن أن يخلص روسيا مما هي فيه، وآلمه كثيراً درجة التشفّي الغربي، والأمريكي منه على وجه التحديد، وتبيّن له بالدليل الساطع أن اليمين الأمريكي اعتبر التنازلات السوفيتية الأولى والروسية التالية إشارة هزيمة شاملة وبداية ولوج إلى نهاية التاريخ بحسب «فوكوياما»، فالتاريخ الحقيقي للبشرية سيبدأ مع العهد الأمريكي العالمي الخارج من معركة الانتصارات الكبرى منذ إبادة الهنود الحمر، مروراً بالاستعباد الخسيس للأفارقة، وحتى الحربين العالميتين، وما تلاهما من محارق في فيتنام ولاوس وكمبوديا والشرق الأوسط . هذه الأمور برمتها بدت أمام القيصر الروسي المجبول بالتطيُّر «يلتسن» كما لو أنها تنّين يهدد الكيان الروسي في عمق أعماقه، ولهذا جاءته الصحوة، فاختار بوتين، وباختيار بوتين اختار الرد، وكان الرد ماهو ماثل اليوم.