من المفارقات العجيبة في عالم السياسة أو الاجتماع أننا نجد الناس على مختلف طبقاتهم ومشاربهم بما فيهم السياسيون، ما إن يتطلعوا إلى أنفسهم في المرآة حتى تعجبهم صورهم وهيئتهم في كثير من الأحيان.يعجبهم هندامهم وتسريحة شعرهم ، إن كان بقي لبعضهم شعر تتدلى خصلاته من هذا الجانب أو ذاك ، خصوصاً أولئك الذين يذهبون بعيداً في إعجابهم بأنفسهم، لكنهم لا ينعمون طويلاً بهذا الشعور الجميل نحو ذواتهم لأنه سرعان ما تقفز صور أخرى من صنع الخيال فيرون خصومهم السياسيين يمدون لهم ((اللسان )) على سبيل التحدي ... فإن كان هذا الذي يتباهى بهيئته وشخصيته يعد موس الحلاقة لتنظيف وجهه من أي شعرة تجرأت على الظهور بعد اقتلاعها من جذورها ، فإنه يتذكر رفاق العمل ويتذكر الأصحاب ويتذكر الخصوم السياسيين والمنافسين على المصالح المختلفة فإذا به يراهم وقد ظهروا في المرآة أمامهم ملتحين وأصحاب ذقون ، فينغّص ذلك عيشته ويكره نفسه وقتها مع أنه يحب نفسه أشد الحب ويكنّ لها الإعجاب كل الإعجاب . فيتساءل بينه وبين نفسه مستنكراً : لماذا يسمح هؤلاء الناس لهذه الذقون أن يطول شعرها وأن تتوسع اللحى حتى تصبح كأنها سور من أسوار التاريخ التي كانت تحيط بالقلاع القديمة؟هو في الواقع قد وجد من يعبأه ضد أصحاب اللحى والذقون فنشأ على الشك والارتياب في كل ذي لحية أو ذقن أو هما معاً ، أو هو لم يعد يتذكر أسباب هذا النفور من أصحاب الذقون ، قد يكون ذلك بسبب موقف رئيسه في العمل أو موقف الشلة التي ينتمي إليها...ثم يجد نفسه قد جرح وجهه من شدة إمعانه في استئصال أي أثر للشعر في وجهه نكاية بكل أولئك الذين ظهروا في المرآة أمامه يفتخرون بأنهم لا يؤذون وجوههم بموس الحلاقة عند كل صباح، فتشذيب الذقن أو اللحية لا يحتاج إلى كل هذا العناء الذي يتكلفه الآخرون. كنت ذات مرة أجلس إلى جانب مسئول كبير لمتابعة فقرات حفل أقامته وزارة الثقافة وكان الضوء خافتاً،كانت المشاهد قد أخذتنا بسبب جودتها وروعتها... بينما كانت هناك مشاهد أخرى قد جلبت لنا النعاس والملل. فانصرف الكثيرون إلى أحاديث جانبية قال لي صاحبي: يا له من رجل فارغ ذلك الملتحي وأشار بيده إلى مقدم البرنامج .. ثم استأنف : انظر إلى لحيته كم طالت وإلى ذقنه أين وصل؟!. ثم يعلّق على ذلك : ماذا جرى لهؤلاء الناس؟ لقد كان إنساناً محترماً ..لماذا يفعل بنفسه هذا كله؟ سألته باستغراب : ماذا تعيب عليه؟ فاستدار ناحيتي يريد توضيح الأمر بأن ذقن الرجل ولحيته قد نغّصا عليه جلسته فما إن رأني أثناء استدارته ليشرح لي الأمر حتى اسقط في يده ، فأخذ يتطلع إلى ذقني ولحيتي وقد انتابه الشيء الكثير من الإرباك والشعور بالحرج ، فأخذ يطبطب على ركبتي ويقول :الناس ليسوا كلهم سواء ، فأنت إنسان يبدو عليك الصلع والوقار، ولست مثل هذا الأخ الذي كنت أعرفه بدون لحية أو ذقن فما الذي دهاه اليوم ليصبح ذا لحية وذقن وقد كان أمرد لا يُبقي شعرة واحدة على وجهه . قلت له : وأنا أربّت على ركبته أيضاً ، كنت أنا أيضاً لا اُبقي سوى الشارب يحتفظ بشعر مهذب ومنظم ولكن جاء وقت ، أخذتْ قناعتي تتشكل بصورة مختلفة عما كانت عليه سابقاً إلا أن يكون هذا التغيير إلى الأحسن والأفضل ، باعتبار أن للشباب هفواته وطيشه ونزقه وللكهولة حيرتها وقلقها وحسن تدبيرها في التخطيط لمرحلة ما بعدها . أما مرحلة الشيخوخة فهي مرحلة ((الأمان )) تأتي بعد مرحلة النضج ثم قلت لصاحبي : إنني أعرف هذا الذي يعيبُ عليه لحيته وذقنه فهو من أتقى عباد الله الذين عرفتهم ، فقد ترك للناس دنياهم وأحقادهم وتنافسهم على متاع زائل.. ترك كل شيء يُغرى بالتنافس على متاع الدنيا إلى الأمور التي لا يلتفت إليها أحد من أولئك الذين يطمعون أن يكسبوا مالاً أو جاهاً أو أي منفعة من منافع الدنيا التي يتهافت للحصول عليها الكثيرون من المحتاجين لنعيم الدنيا ورفاهيتها. أمثال هؤلاء يا عزيزي لا تستطيع أن تقيسهم بمقاييس الوجه والهندام أبداً، قد يكونوا شُعثاً غُبراً وقد يكونوا في غاية الأناقة والهندام ...قد يكونوا مُرْداً لا يسمحون لشعرة واحدة تبقى على صفحة الوجه وقد يكونوا أصحاب ذقون ولحى وعمائم متفاوتة في الحجم واللون وربما لا يعرفون كيف يلبسون العمامة وإنما هم أصحاب بنطلونات يحسنون صنع ((ربطة العنق)) فقط ومع ذلك فقلوبهم يعمرها نور الإيمان وعقولهم توزن بمثاقيل الذهب, فأعمال الإنسان الخيِّرة لا نعرفها من خلال شكله ومنظره ولماذا لا نحسن الظن بأصحاب الذقون واللحى كما نحسن الظن بمن يحلق ذقنه وشاربه ؟. إنه لمن المؤسف حقاً أن يمد الإنسان يده مصافحاً صديقه القديم بحماس ومحبة وود ، ثم لا يجد سوى الفتور في استقباله والتعجب من أمره ، كما لو كان قد اقترف مخالفة جسيمة للعرف والمألوف والتقاليد !!! ألا نستطيع أن نتعامل مع إخواننا وأبنائنا وآبائنا من خلال التوجيهات الربانية:«إن أكرمكم عند الله أتقاكم»؟ ألا نستطيع أن نُلغي هذه المقولة التي نسمعها من الكثيرين في مخاطبتهم من يرونه ملتحياً أو صاحب ذقن بأن ينادونه : يا مطّوع ؟!! ألا يوجد من يلزم الناس الأخلاق والذوق في حسن التعامل ؟! فما هو إذن دور الإعلام ؟ وما هو دور الثقافة؟.