حيثما وجّهت وجهك لن تسمع غير أحاديث الفلوس تحتل أوقات الدوام الرسمي في معظم المؤسسات العامة وفي الوزارات، وتمتد تلك الأحاديث إلى خارج حدود الدوام الرسمي وصولاً إلى ساعات النوم ولحظات الأحلام.. الشغل الشاغل هو التفكير بالفلوس وبصيغة أخرى يسمونها ب(المستحقات) وإن لم يكن لها من المسمى نصيب وكثيرة هي الأسماء والمسميات والضمائر العائدة على الفلوس. وجدت نفسي مضطراً للانتظار كثيراً ومثلي الكثير حتى يفرغ عدد من موظفي واحدة من المؤسسات الخدمية العامة من حديثهم عن الفلوس والمستحقات، وسرد الحكايات المتعلقة بصرفها فيما بينهم غير مهتمين ولامكترثين بمن يدخل إلى المكتب.. وجدتهم خاشعين منصتين لبعضهم في هذا الحديث بالذات، وعداه لايتفقون على شيء لايستمعون لبعضهم ولاتكون أحاديثهم ذات أهمية عند بعضهم.. لم يردوا السلام على أحد حتى أصحاب الأصوات المرتفعة في إلقاء التحية والسلام لم تفلح أصواتهم في لفت أسماع المنصتين لأخبار الفلوس، فالحديث عن المستحقات أهم من كل شيء ومن وجودهم في ذات المكان الذي يستلمون بسببه المرتبات والمستحقات التي لم تعد مستحقة على الإطلاق.. الأوراق والمعاملات ملقاة في الجانب والاهتمام كله منصب في الحديث عن المبالغ وموعد الاستلام، رغم أن الحديث في تلك اللحظات لايغير في المبالغ شيئاً ولايقدم موعد الصرف بالنسبة لهم ولايؤخر.. حين حاول أحد الحاضرين أن يقطع حديثهم طالباً الإلتفاف إليه ردوا عليه جميعاً بصوت واحد(لحظة)، اتفاق غير معهود وغير مسبوق حدوثه في غير ذلك الوقت وفي مناخات الإنشغال بأحاديث الفلوس.. لم تكن لحظة ولالحظات لقد مضى وقت طويل ونحن نسمع كلاماً لايهمنا منه شيئ ولا هو بتلك الأهمية لنستمع إليه من باب الفائدة. وأسوأ مايمكن حدوثه أن تجد نفسك مكرهاً على الانتظار ووقتك من ذهب وأغلى، وتستمع لحديث لا يهم غير المتحدثين به وهو ليس مهماً في الأصل إلاّ في قواميس السخافة والغباء وأشياء متعلقة بالفساد الإداري الشديد الصلة إلى درجة التوحد بالفساد المالي وكله فساد. لم يكتف أحدهم بما تحدث به في المكتب الأول بل واصل حديثه في الممرات وصولاً إلى المكتب الثاني وتراه يحمل أوراقك وهو يتحدث على أقل من مهله مع هذا وذاك وتظن أنه يتحدث بما ينفع الناس الذين يترددون على المكان وإذا بك حين تقترب منه تكتشف أن مايقوله هو نفس الكلام الذي سمعته من قبل، إنه يتحدث عن المستحقات والمكافآت وعن أرقام ومبالغ يستعجل صرفها، ويكرر ذات الحديث دون كلل أو ملل.. الوقت الذي استغرقه ليصل إلى المكتب الذي يبعد عن المكتب الأول بعشرين متراً تعدى نصف ساعة وهو زمن ليس بالقليل بالمقياس العام فما بالنا وبالكم بالنسبة لمن يهمه أمر الوقت لسبب أو لأكثر وإياك أن تتذمر أو تتعرض لأنك سوف تدفع بدل النصف ساعة ساعات طويلة إن لم تكن مضطراً للدفع بالعملات الأخرى والمسألة واضحة من البداية ولكن إصرار الناس الحاضرين وقتها على عدم الاستجابة كانت تلك نتيجته.. هذا ماحدث بالضبط ويحدث وبالأخص في المؤسسات الخدمية وحيث يكون الزحام أكثر وحاجات الناس أكثر إلحاحاً وسنذكرها لاحقاً.