ابتدأت النهضة العربية حركتها في العصر الحديث من منطلق قومي وعلى أساس المقارنة بين تخلف العرب، وتقدم غيرهم من أمم وشعوب العالم، على الأخص أمم أدربة.. ومن الشام إلى وادي النيل حتى شواطئ المحيط في المغرب العربي،والبحر في الجنوب، تحرك أعلام النهضة بحثاً عن مشروعها في الأمة، في ذات الوقت الذي تحركت فيه قوى الهيمنة والعدوان لإخضاع هذه الأمة لهيمنتها من خلال سلاح التجزئة والاحتلال.. لم تكن اتفاقية سايكس بيكو مرضاً عربياً بنظرية المؤامرة بقدر ما كانت تاريخاً مشهوراً للعدوانية الاستعمارية التي أقامت هيمنتها على التجزئة والاستيطان، في حلف غير مقدس، بين سايكس بيكو، ووعد بلفور. حاول العرب في القرن العشرين أن يقيموا نهضتهم الحضارية في العصر الحديث على أساس الحق القومي لهم في الأمة الدولة، ورغم فشل هذه المحاولات لأسباب لا مجال لذكرها هنا إلا أن هذه المحاولات نجحت في تعزيز الهوية القومية للأمة العربية ثقافياً وسياسياً. ولئن ودع العرب قرن نضالهم القومي في سبيل الحرية والوحدة بفشل الحركة القومية وعجزها عن تحويل مشروع التوحيد من طموح مشروع إلى حركة فاعلة ومتنامية، فإن هذا التراجع، تزامن مع تطورات تقنية ألغت الحدود والحواجز وتطورات سياسية أبدعت نماذج متاحة للتوحد كمصلحة مشتركة بين الشعوب والدول. ولقد انتمت اليمن مبكراً إلى حركة النهضة العربية منتصرة لحق الأمة بالتحرر والوحدة، فكانت الثورة اليمنية على هذا الدرب الذي انتصر وطنياً على التجزئة محققاً وحدة القطر على أساس جديد يفتح للأمة باب وحدتها على أساس جامع للتنوع والاختلاف في إطار ديمقراطي متاح. لقد كانت الوحدة اليمنية هدفاً مرحلياً للنضال الوطني في اليمن، باعتبار وحدة الشطرين خطوة أولى نحو تحقيق الوحدة العربية، وقد تأخر هذا النضال عن الخطوة التالية لخطوته الأولى كثيراً، حتى تقدم الأخ الرئيس القائد المشير علي عبدالله صالح، بمبادرة الاتحاد العربي التي أقرتها القمة العربية هذا العام بمدينة سرت الليبية . ربما يكون المكان باعث تفاؤل، ففي طرابلس اتفق ممثلو الشطرين في نوفمبر 1972م، على مشروع سياسي لإعادة توحيد اليمن، تضمن النص على اسم الجمهورية اليمنية وعلمها، اللذين هما الآن رمز وحدة قائمة منذ 20 عاماً. نقول: قد نتفاءل بالأرض العربية الليبية من هذا الواقع التاريخي، ومن منطلق العقيدة القومية للقيادة الليبية أيضاً، لنقول: إن القمة الخماسية المعنية بمبادرة الاتحاد العربي والمقرر انعقادها بمدينة سرت الليبية قد تأتي بما لم يكن متوقعاً منها في اتجاه العودة من جديد إلى الهوية العربية وحقها القومي في النهضة والاتحاد. لم،ولن تكون فكرة الاتحاد العربي بمعزل عن معركة الأمة العربية ونضالها في سبيل حقها القومي في الوجود وعلى أرضها وتحت شمسها بحرية، وفي مصير كريم بالتوحد والاستقلال، وستواجه المبادرة اليمنية مثل ما واجهت الحركة القومية من تآمر وعدوان. إن هذه الحقائق تفرض على المثقف العربي عموماً وعلى هذا المثقف في اليمن تحديداً أن يعي الطابع الصراعي للوحدة العربية على الأقل في بعدها المتصل بالاستيطان الصهيوني والصراع الوجودي بين الصهيونية والقومية العربية، ليكون موقفه الإيجابي من المبادرة اليمنية منزهاً عن التحيز السياسي تأييداً للرئيس فقط. إن تأييد الفكرة من حيث المبدأ، هو المطلوب من المثقف خاصة في اليمن، ليكون الشق السياسي من هذا التأييد مرتبطاً بالرئيس كناحية عملية للخطاب السياسي وحركته الإعلامية والثقافية على مستوى الوطن العربي كله. تكمن أهمية الإيمان بالفكرة من حيث المبدأ أولاً، في طبيعة الوحدة العربية كهدف قومي ومشروع نضالي، وهي الطبيعة المرتبطة تاريخياً بالصراع بين الأمة والأطماع الاستعمارية وبهذا الصراع مجسداً في الكيان الصهيوني بفلسطين المحتلة، لذلك نقول: إن المبادرة اليمنية مشروع نضال قومي جديد في هذا الإطار التاريخي وسياقاته القائمة في الواقع والممتدة إلى المستقبل. أعتقد أن منطلق الرئيس القائد علي عبدالله صالح إلى مبادرة الإتحاد العربي كان منطلقاً وطنياً تستوجبه الضرورة اليمنية ومصالحها المرهونة لعمق عربي، تتكامل به الموارد والجهود في سياق عملية تنموية شاملة ومستدامة، وهذا مايجب أن نحيط به علماً ثم نعرّف به إعلامياً في سياق حملة التأييد للمبادرة بين الجماهير العربية. من هذا المنطلق القطري للتكامل التنموي، تأتي مجالات التكامل الأخرى في كل شئون الحياة العربية ومختلف أمورها على صعيد الأفراد والمجتمعات، ابتداءً من التعليم وجودته مروراً بسوق العمل وسعته، وقوفاً عند سوق التوزيع والاستهلاك التي تتطلب شركات عملاقة في مجال الاستثمار والإنتاج. هذا وجه من أوجه الأهمية النظرية والعملية للإتحاد العربي كفكرة، وعليه يكون الإيمان بها من حيث المبدأ هاماً لتأييد صورتها المتجسدة في مشروع طموح مثل الذي حملته المبادرة اليمنية، لهذا نطالب هنا بالحرص على التوعية بالفكرة والتعريف بالمشروع ليتكامل بذلك الأساس والطموح، قولاً وفعلاً. ولا مناص من الإشارة إلى أن أهم إيجابيات المبادرة اليمنية تكمن في كونها مقدمة من أحد المسئولين للأقطار العربية، ودورهم في تحقيق التكامل بينها ضمن إتحاد يحفظ التعدد والتنوع ويحقق التكامل والإتحاد، وكذلك في كونها حظيت بنوع من القبول الجاد مجسداً في تشكيل لجنة خماسية معنية بتحويلها إلى مشروع قابل للتنفيذ. في هذا السياق، نشير إلى أهمية الوعي بضرورة العمق القومي للحفاظ على الوحدة الوطنية للأقطار العربية التي تتهددها النزعات التفتيتية المرتدة إلى الانعزاليات الجهوية والفئوية، والتي قلّصت مساحة الانتماء من إطارها القومي في الوطنية القطرية إلى تمزقاتها في الأجزاء الضيقة بهويات فئوية وجهوية داخل كل الأقطار العربية، دون استثناء. وفي هذا المناخ تتحول كل الهويات المرجعية للإتحاد على المستويين القطري والقومي إلى مرجعيات تمزيقية. بما في ذلك الدين الذي يوسع دائرة الانتماء بالإيمان إلى عالمية تتجاوز الأقطار والقوميات، لهذا تكمن أهمية المبادرة اليمنية في توقيتها الباعث لإحياء الهويات الأوسع في تعبيرها عن الإنسانية موطناً وقومية. ولاشك أن بعض تقرحات هذا المناخ الانعزالي للدعوات التمزيقية، جهوياً وفئوياً، لن يسكت عن ذم هذه المبادرة وتسفيهها والعمل على بعث مشاعر الإحباط واليأس منها أو من غيرها، وهو مايتطلب وعياً قادراً على هزيمة هذه التقرحات والانتصار للفكرة ومبادرتها في الوعي والسلوك وفي الخطاب والممارسة. ولابد أن نؤكد مجدداً على أن مبادرة الرئيس صالح للإتحاد العربي قد فتحت للأمة باباً جديداً يعيدها إلى ساحة معاركها التاريخية الساعية إلى إعادة بعث النهضة الحضارية للأمة، وتحقيق رقيها المتاح لها بالتحرر والإتحاد. وحين نؤكد على هذا فإننا ننبه إلى خطورة التعامل مع المبادرة من منطلق التحيز السياسي المحدود بواجب تأييد الرئيس اليمني، لأننا في حالة كهذه سنكون سواءً والذين يعارضون المبادرة انطلاقاً من معارضتهم الحزبية للسياسة الداخلية أو للرئيس صالح وحكومته وحزبه الحاكم. وفي الانتظار لقمة سرت أواخر هذا الشهر، ينبغي أن نستعد لما تتطلبه المرحلة القادمة، أياً كانت النتائج التي ستسفر عنها القمة الخماسية المعنية بتحويل المبادرة اليمنية إلى مشروع عربي للإتحاد، وسنتفاءل أخيراً بنجاح مبادرة اليمن إلى تحويل القمة العربية للجامعة إلى عمل دوري ينعقد كل عام.