كانت تركيا أول دولة إسلامية ( للأسف الشديد ) تعترف بالكيان الصهيوني وبدولة إسرائيل بعد إنشائها عنوة على الأرض الفلسطينية العربية بعام واحد فقط، كان ذلك في عام 1949 م، حيث أنشئت الدولة اليهودية الصهيونية عام 1948 ميلادية وهو العام الذي نسميه عام النكبة. فقد كان العسكر هم الحكام الحقيقيون للكيان التركي لفترة طويلة حكموا وفق هواهم واتجاهاتهم ومصالحهم ومصالح من يعتمدون علي بقائهم في مناصبهم والذين جعلوهم حكاماً عسكريين في صورة دولة علمانية والحقيقة أنها كانت أبعد من ذلك الادعاء والتضليل، إلى أن تسلم حزب العدالة والتنمية دفة حكم البلاد عام 2002م. ولا يخفى على أحد الانزعاج الشديد الذي أصاب جميع العرب والمسلمين حكومات وشعوباً من ذلك التصرف التركي من كبريات الدول الإسلامية، وقد كان قراراً شاذاً من دولة إسلامية تعترف بكيان قام على أرض إسلامية، لم تقم بمثل ذلك أية دولة أخرى من دول الشرق الأوسط أو أفريقيا أو آسيا آنذاك، ولكن اتضح فيما بعد أن العسكر أرادوا الابتعاد عن أية علاقة تربطهم بالإسلام والمسلمين والتاريخ الإسلامي بل وبدول الشرق الأوسط جميعها وكان المبتغى هو التقرب من أوروبا . ولكن من كانوا يحكمون الدولة التركية آنذاك ليسوا هم اليوم . ولم تعد بيدهم السلطة ومقاليد الدولة، بل أصبحوا هم في السنين الأخيرة بيد السلطة التركية وأصبحوا مؤتمرين بقرارات السلطة التركية والقانون التركي بعد أن كانوا هم القانون وهم السلطة وهم أصحاب القرار والتوجهات السياسية والأمنية في عموم تركيا. ولا يخفى على أحد أشكال التعاون الأمني والاستخباراتي والاقتصادي في السنوات الطوال بداية من اعتراف الحكومة التركية بالكيان الصهيوني حتى تسلم حزب العدالة والتنمية دفة الحكم، فهناك أفكار ومشاريع تعاون كبيرة شتى تم التوقيع عليها بين الدولتين والحقيقة أن الكيان الصهيوني المغتصب لأرضنا العربية لن يجد أفضل من تركيا كحليف أوصديق حميم في المنطقة سواء من الناحية العسكرية أو من الناحية الجغرافية لبسط نفوذه وخططه على منطقة الشرق الأوسط والتطلع إلى أبعد من ذلك. فالإسرائيليون بتحالفهم هذا مع الأتراك بسطوا نفوذهم وأعينهم وآذانهم على مناطق أبعد من تركيا كشمال سوريا وشمال العراق وغرب وشمال إيران وجميع تلك المناطق أصبحت تحت أيديهم ونظرهم من خلال أجهزة التصنت التي التنصت في أماكن متعددة على الأرض التركية وهذا الأمر لم يعد سراً حيث تناولته الصحافة باستفاضة . زد على ذلك التعاون في مجال المياه ومشروع نقل المياه إلى إسرائيل وكذلك صفقات الأسلحة التي استوردتها تركيا من إسرائيل في زمن الحرب الباردة وقلق تركيا من الاتحاد السوفيتي وهي جارة له، إضافة إلى الدعم الكبير من الحلف الأطلسي لشكل التعاون بين إسرائيل وتركيا ( وهي عضو أساسي فيه)، هناك تداخل كبير في المصالح بين أنقرة وتل أبيب في الفترة الماضية أملته الظروف الوقتية في ذلك الزمان ومن المؤكد أن التعاون الأمني واللوجستي كان أحد تلك الصور، وخصوصاً من الدولة الصهيونية مع الدولة التركية والتي كانت تعاني معضلة مواجهة المتمردين الأكراد في شمال العراق وشرق تركيا ولن تخلو تلك السنين من التعاون بين الأتراك والإسرائيليين وخصوصاً في الشأن الكردي. والاستنتاج المؤكد أن إسرائيل واضعة يدها على هذا الملف بالكامل وهي فقط ستستعمله عندما تحين الظروف لذلك وفي المكان والزمان المناسبين حيث من المستحيل أن تطرق هذا الباب من الجهة التركية مادامت تركيا عضواً في حلف الأطلسي وحليفاً قوياً للولايات المتحدةالأمريكية إلى أن تتغير المعطيات والجغرافيا فلكل حادث حديث، أما استعمال إسرائيل للملف الكردي للدول الأخرى فيكاد يكون واضحاً وخصوصاً في منطقة شمال العراق، ويقال أيضا إن الإسرائيليين نشطوا هناك ليس في إنشاء مشاريع ليدخلوا المنطقة فقط، بل في شراء أراض لتثبيت قواعد ومراكز نشاط لهم في العراق . السنوات الماضية حملت معها أخباراً كثيرة من أشكال التعاون الإسرائيلي التركي من صفقات أسلحة إلى صفقات تجارية إلى مناورات مشتركة إلى تعاون استخباراتي إلى السماح باستعمال القواعد والمطارات التركية للطيران الإسرائيلي إلى مناورات عسكرية مشتركة، لم يبق شيء من أشكال التعاون إلا وتم تفعيله وقد استثمرت إسرائيل ذلك الانفتاح والتقارب التركي أيما استثمار، بل من المؤكد أن إسرائيل كانت تعتمد على الدعم الأمريكي الخفي للضغط على الأتراك لتقديم تنازلات أكثر فأكثر على الأرض التركية ومن هنا كان العرب محقين في نظرتهم وتحسسهم ( آنذاك) من تركيا وسياستها وتعاونها مع الصهاينة فقد كان الأتراك حينها ملكيين أكثر من الملك. وفي يقيني أن الظروف في تلك الفترة قد ساعدت إسرائيل كثيراً حيث أن الوضع الدولي إبان الحرب الباردة أجبر تركيا على فتح تلك الأبواب بمصارعها لدولة تعتبر منبوذة ومكروهة من قبل الشعب التركي وتاريخه وعقيدته الإسلامية التي لم تتغير مطلقاً. وأظن أن التمردات الكردية في الأرض التركية وشمال العراق أجبرت الأتراك على التحالف مع الشيطان مادامت المصلحة الوطنية تتطلب ذلك وخصوصاً أن هذا الشيطان له يد طولى في هذا الجانب ويستنبط خبراته ودعمه من دول عظمى فاشية لها باع كبير وطويل في تأسيس كيانه والحفاظ على كينونته . وربما وجدت تركيا نفسها بين فكي التهديد الشيوعي والتهديد الكردي إذ لا محالة في ظرف كهذا أن يكون التعاون من أجل المصلحة الوطنية والحفاظ على وحدة الأرض التركية، وتحقيق ذلك لا بد من طرق باب الغرب وإسرائيل معاً، وكل واحد منهما مكمل للآخر والأحداث التي عايشناها في السنوات الماضية تثبت صحة وجهة النظر هذه. ربما يكون العسكر الذين حكموا تركيا في السابق لم يكن لهم دور في الاتجاه بتركيا إلى تلك الوجهة، لكن حقيقة العسكر هم أتراك قبل أن يكونوا عسكراً يحكمون، فمصلحة تركيا وسلامة وحدة أراضيها كان في المقام الأول من اهتماماتهم . أي أنهم كانوا حريصين على تركيا في المقام الأول وليس على من هي الجهة التي ستحافظ على وحدة وسلامة الأرض التركية . في العشرين سنة الماضية وربما أكثر من ذلك تغيرت موازين القوى وذهبت دول و نشأت دول جديدة وسقط حكام وأتى حكام جدد وتغير الاقتصاد التركي ونما بشكل جيد وبالطبع تغيرت موازين المصالح، وأغلقت تركيا كل أبواب التوتر التي كانت تحيط بها من أكثر من جهة وذهب الأتراك إلى أبعد من ذلك وتذكروا أن لهم ماضياً تليداً وأن لهم تاريخاً في كل البلاد العربية وأن العرب يكنون حباً كبيراً للأتراك بل هناك تمازج عائلي عربي تركي، لكن عوامل خارجية غيبت ذلك عن الأنظار وانحرفت به . بل إن المصالح الاقتصادية التي سوف تجنيها الدولة التركية والشعب التركي من العرب أكثر بعشرات الأضعاف من المصالح التي من المشكوك الحصول عليها من الدول الأوربية وإسرائيل مجتمعة حتى لو كنا متفائلين أكثر من اللازم في انضمامها للاتحاد الأوروبي . وهنا بدأ التحول في الاهتمام التركي بالعلاقات التركية العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية وهي بالأساس قضية إسلامية وتركيا جزء أساسي من العالم الإسلامي، أي أن القضية أصبحت أيضاً قضية تركية. حزب العدالة والتنمية الذي اختاره الشعب التركي ديمقراطياً لحكم الدولة التركية وهو أقرب الى التوجه الإسلامي غير المتطرف وغير المتشدد وهو يعبر عن حياة الشعب التركي وتاريخه ولا يعبر عن توجهات المتشددين والمتطرفين العلمانيين في إظهار عداوتهم للإسلام وهم في هذه الحال يعادون تاريخهم ويعادون الشعب التركي أيضاً، هذا الحزب والذي يترأسه طيب أردوغان ينظر له العرب والأتراك نظرة احترام وحب شديدين، لأنه أعاد للأتراك هيبتهم وأعاد للأتراك دولتهم القوية وأعاد للأتراك مكانتهم التي فقدوها لعشرات السنين، ومن يزر تركيا أكثر من مرة ويلامس مشاعر الأتراك سيكتشف أن تركيا يجب أن تكون دولة عظمى والطريق الذي يسلكه حزب العدالة والتنمية وسياسة رجب طيب أردوغان في الحفاظ على سمعة تركيا وهيبتها ومكانتها وتاريخها كقوة ليست إقليمية فقط بل وعالمية سيعرف إلى أي حد يفتخر الأتراك بأنفسهم وتاريخهم ودولتهم ومكانتها بين الدول، وهذا ما نراه حالياً من اتجاه تركي وسياسة تركية نحو إعادة مجد الأتراك والدولة التركية القوية والتي تخطب ودها كل الدول كبيرة وصغيرة، والحقيقة إن ما نراه ونلمسه ونشاهده من حراك في تركيا أو في المنطقة يؤكد فعلاً أن تركيا بدأت تستعيد دولة الماضي التليد وهي تستحق ذلك. لكن هناك سؤالاً أو مجموعة أسئلة تفرض نفسها على الواقع بعد موقف الحكومة التركية وأردوغان على ماجرى من أحداث تسببت إسرائيل فيها واعتدت على المسالمين في أسطول الحرية ولطخت سمعتها أكثر أمام العالم وضربت بكل القيم الدولية والإنسانية عرض الحائط، ولكن هذه المرة كان الضحايا أتراكاً والسفينة تركية والعلم الذي يرفرف عليها تركياً والذي كان عما قريب أشبه بالحليف والصديق الودود وبالمجمل اعتبر الأتراك ما حصل إهانة لتركيا من إسرائيل فكانت ردة الفعل التركية متماثلة مع خطوات إعادة المجد للدولة التركية، وبدأت إسرائيل تتلقى الصفعة تلو الأخرى من الساسة الأتراك وهو ماجعلها وفق تصريحاتهم ربما تفكر في الانتقام من الموقف التركي الحاد. والسؤال الآخر: يا ترى هل فكرت تركيا أن تاريخ الإسرائيليين مليء بالغدر والخيانة والكذب والتزوير والتزييف فهم قتله لا عهد ولا ذمة لهم ولا أمان والتاريخ يشهد بذلك ولسنا نفتري عليهم ؟ يا ترى هل ستترك إسرائيل تركيا تنشط وتتحرك وتتعاظم ضد مصالحها وتعريها في كل محفل حيث الصوت التركي أصبح قوياً مجلجلاً هذه الأيام؟ ألن تستعمل إسرائيل الملف الكردي التركي انتقاماً هذه المرة لإيقاف النشاط التركي في المنطقة وجعله يسير وفق هواها ومصالحها أم أن الأتراك يدركون ذلك تماماً؟ لاشك أن دولة إسرائيل لديها كامل الملف الكردي التركي وباستطاعتها وهذا ما اعتقده أن تحركه وفقا لمصالحها ففتح أكثر من جبهة في المنطقة يعتبر من أولويات قيام الدولة الصهيونية، وأحد العوامل الرئيسية لاستمرار وجودها، فهل يدرك الأتراك الآن أن من ائتمنوا عليهم في السابق وفتحوا لهم كل الأبواب عليهم أن يغلقوها بإحكام .؟ فالدولة اليهودية قائمة على أعمدة من العنصرية والظلم والاغتصاب والمؤامرات على كل البشر في كل بقاع الأرض، سنرى ذلك والأحداث القادمة خير دليل.