لم تكد الأمة تضيق من هول صدمتها برحيل مفكر كبير وعالم مجتهد في نقد العقل العربي، هو محمد عابد الجابري رحمه الله حتى فجعت برحيل علم آخر من أعلام تجديد الفكر الديني ونقد خطابه المعاصر، هو نصر حامد أبوزيد تغمده الله برحمته وتقبله بالمغفرة والرضوان. لقد خسرت الأمة برحيلهما نور العقل الذي توهج في عصرنا بجهودهما العلمية، ومنهجيتهما العقلانية، التي حاولت استعادة روح الإبداع العلمي والفكري للعقل العربي المصادر بهيمنة التخلف وسيطرته على العقل ونحتسب لهما ذلك عند الله. يأتي رحيل أبوزيد بعد عمر حافل بالجهود العلمية المتميزة بالجدة والتجديد، وبعد رصيد فكري زاخر بسمات القدرة على الإضافة والإبداع في منهج التفكير ومضمون الفكر، ولهذا تميز أبو زيد رحمه الله بتاريخ من المواجهة مع إرهاب التكفير سببه الاهتمام المباشر لأبي زيد بواقع الخطاب والممارسة السياسية من قبل مكونات التيار الديني المعروفة بظاهرة الإسلام السياسي. لعلّي معني بالوقوف عند أهم سمات التميز التي ظهر بها نصر حامد أبوزيد، المفكر والفكر في حياتنا المعاصرة، والتي تجلت واضحة في كتابه ذائع الصيت :«نقد الخطاب الديني»حين قرر أن الخلاف بين “الاعتدال” و«التطرف» في بنية الخطاب الديني ليس خلافاً في النوع بل في الدرجة ، استناداً إلى الأدلة المتعددة على أن كلاً من الخطابين يعتمد التكفير وسيلة لنفي الخصم فكرياً عند المعتدلين وتصفيته جسدياً عند المتطرفين.. لقد كشفت هذه الفكرة، حقيقة التوظيف السياسي للدين في الخطاب الديني المعاصر، من خلال بيان كون التنوع في الخطاب الديني بين التطرف واعتدال يمثل أهله ولا يمثل الدين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أسس أبوزيد للتفرقة بين الفكر الديني والدين، أي بين فهم النصوص وتأويلها وبين النصوص في ذاتها. بهذا سعى أبوزيد إلى نزع القداسة عن فكر بشري وعن خطاب إنساني، يسعى مروجوه إلى قمع الناس واستغلالهم والسيطرة على عقولهم ومستقبلهم باسم الإسلام، مما جعل الكهنوت الديني يهب للدفاع عن مصالحه المكتسبة من المتاجرة بالدين بتكفير أبي زيد. من مضمون تقرير أكاديمي حول أحقية أبي زيد بالأستاذية كترقية أكاديمية، انطلقت حملة التكفير في الصحف ومنابر المساجد متضمنة مطالبة المتطرفين والمعتدلين، بتطبيق حد الردة، تم رفع دعوى حسبة للتفريق بين أبي زيد وزوجته، وكعادتها، كانت حملة التكفير هذه ومدبروها، يسوقون الاتهامات بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير. لم يناقش أحد فكر أبي زيد، ولم يجادله أحد بالتي هي أحسن فكان التكفير سلاح الإرهاب الديني للفكر والعقل الذي أخرجه من مصر، إلى فضاءات الحرية التي آوته وكثير من أمراء الغلو والتطرف وأعلام الاتجاهات المتعددة والمختلفة للخطاب الديني المعاصر. يمثل أبوزيد، رائداً من أعلام فكرة النهضة، وتحديداً في الجانب المتصل بدعوة الإصلاح الديني من زاوية الحاجة إلى ، والمصلحة من ، تنقية التراث الديني مما لحق به من جمود وموات، وتجديد الفكري الديني، من خلال الارتكاز إلى تطور المعارف العلمية في عصرنا، وتقدم وسائلها الإبداعية في منهاج البحث وحاكمية العقل. لقد امتلك الراحل مفاتيح المنهاج العلمي في قراءة النصوص وتحليلها، وتسلح بمبدأ النقد الهادف إلى كشف العلل وبيان الانحرافات التي ذهبت بعقل الأمة وعطلت قدراتها المادية والمعنوية عن أداء دورها في كسب المعرفة والانتفاع منها، وفي مشاركة البشرية إنتاجها بإضافة وإبداع. غير أن ربطه المباشر بين الخطاب الديني ووقائع توظيف الإسلام في كارثة عملية شركات توظيف الأموال التي شهدتها مصر وألحقت بجموع غفيرة من مواطنيها وباقتصادها، خسائر فادحة جعلتها فعلاً كما أسماها أبوزيد “عملية نصب كبرى”أقول: إن هذا الربط جعل فكر أبي زيد متصلاً بواقعه ومتصادماً مع مصالح أصحاب الخطاب الديني المعاصر. هذه الميزة جسدت المنطق العلمي لمنهاج أبي زيد العلمي حين أدرك أنه لا يستحسن به أن ينعزل عن الواقع أو يفصل بين الممارسة والخطاب في أية مقاربة للفكر الديني وخطابه السائد في الواقع السياسي المعاصر. وفي تحليله النقدي لآليات الخطاب الديني ومنطلقاته الفكرية كشف عن مرتكزات التطابق بين اتجاهات الاعتدال والتطرف في هذا الخطاب، حين يتوافق الجميع على التوحيد بين الفكر والدين بهدف جعل ما يخالف الفكر مخالفاً للدين على مبدأ التكفير. لم يكتشف أبوزيد، مبدأ الفصل بين النص والتأويل، فهذا ما كان عليه حال الأمة منذ فجر الإسلام، لكنه كشف عن آليات الدمج بين النص والفهم في الخطاب الديني المعاصر، بدافع إضفاء قداسة الدين بين المعبرين عنه بفهمهم وتأويلهم وبهدف الجمع بين سلطة الدولة والدين، بحيث يبرر قمعهم لمخالفيهم ومعارضيهم باسم الإسلام ، وتهم المروق عنه إلى إلحاد الماركسية والعلمانية والصهيونية. لقد رحل أبوزيد، وبقيت دعوة التجديد الديني قائمة بعده تستدعي علماً على سيرة الراحلين، ينير ظلمات الواقع بومضة عقل تحرر من جمود الفكر وإرهاب التكفير، فلازالت حياتنا العربية مهدورة القيمة ومباحة لمن طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد بإسم الإسلام. نعم ، لقد آمن أبوزيد أن الدين وليس الإسلام وحده، يجب أن يكون عنصراً أساسياً في أي مشروع للنهضة، وحرص على أن يتباعد بالدين عن أن يكون موضوعاً للمتاجرة به أو الانتفاع من تأويلاته،من قبل أي من اتجاهات الخطاب الديني المتفرقة بين الاعتدال والتطرف أو بين اليمين واليسار. وحين أدرك خطر التوحيد بين الدين وفكر أهله، كشف عن تناقضات الخطاب الديني الذي يصر على نفي الكهنوت عن دين الإسلام ويصر على ادعاء اتجاهاته بأنهم الإسلام ذاته أو المتحدثين باسم الله جل جلاله. لقد أنار أبوزيد زاوية من ظلمات التخلف المهيمن على حياتنا العربية والمسيطر على عقلها العام باسم الإسلام وكان في ذلك صاحب منهج في العلم ومنطق عقلي يصل بين الخطاب الديني وواقعه المعيشي في المجتمعات، ولقد رحل وحياتنا مقهورة بالتخلف مهانة بالتسلط والاستبداد وأمراء التطرف والإرهاب. “دوائر الخوف” هي من أواخر إصداراته التي تصدت لقضايا المرأة العربية، وعزاؤنا لأنفسنا أولاً ولمطلب التجديد الديني ثانياً، ثم لشريكة عمره زميلته وصديقته ابتهال يونس وهي تخفي آلامها ومواجعها الحادة منذ عاشتها معه في محنة التكفير ودعوى التفريق بينهما، حتى لايضيعا هدوء الرؤية وعمق البصيرة، وإلى أن فرق الموت بينهما.