من الأشياء المسلم بها حق الاختلاف والتباين في الرأي وابتكار الأفكار والتنوع في الطرح.. ففي ذلك لا يفسد للود قضية.. وهذا أمر مفروغ منه بل مطلوب في علاقاتنا وتعاملنا الإنساني والحياتي بما يعزز في نفوسنا الثقة بالتكامل والتفاهم والاجتهاد والانسجام. كما أن هذا الاختلاف والتباين في الرأي لا يتطلب أن تحمله ما لا ناقة له ولا جمل فنجعله سبباً للقطيعة والهجر والخلاف الذي يؤدي إلى التصادم والتشاحن والتباغض وما يترتب عليه من آثار سيئة وانعكاسات سلبية وخطيرة. فالكثير من الدارسين والباحثين يؤكدون أن الاختلاف في الرأي يعد واحداً من دعائم رقي وتقدم مسيرة الوعي لدى أبناء مجتمعاتنا وخصوصاً منها الإسلامية, كما أنه عنصر فاعل لابد من الاتكاء عليه والتكيف معه, لأنه مشيئة القدر الذي ساقنا جميعاً في دائرة الاختلاف المسوغ كما تقر بذلك شريعتنا السمحاء وكتابنا العظيم والعقل والتاريخ أيضاً. كما أن الاختلاف رحمة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:«اختلاف أمتي رحمة» أو كما قال.. ولهذا فإن الاختلاف بين البشر في الأفكار والآراء والتوجهات والمواقف أشياء حميدة ومقبولة شرعاً وأمر بدهي بين أهل المعرفة والفكر والرأي والتنوير. ولولا هذا النوع من الاختلاف والاجتهاد لما تقدمت البشرية ووصلت إلى ما وصلت إليه اليوم, وما أنشئت الحضارات وازدهرت العلوم ونمت المدارس الفكرية والمذاهب الفلسفية.. وللإمام الشافعي قول مشهور في حق الاختلاف: “ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”، وقال: “ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه, فإن كان الحق معي اتبعني, وإذا كان الحق معه اتبعته”. ربما نحن ورثنا ماضياً من الكبت والشمولية وابتلينا بعقد تجعل البوح بالأفكار والتصورات والتوجهات والمجاهرة بالرأي وإسداء النصيحة خطوطاً حمراء وأسواراً شائكة لا يتوجب الاقتراب منها, بل هي تعد من المحظورات. هذا ليس في جوانب الاختلاف في المجال الفقهي أو الاجتهاد العلمي والفكري, بل في أبسط أمور الحياة كأن تقول رأياً حول قضية ما أو ملاحظة عامة تهدف بها إلى إصلاح أمر أو معالجة مشكلة أو لفت نظر لمعضلة أو قصور ما ومناقشة الرأي الآخر ومقارنة الحجة بالحجة والدليل بالدليل. لهذا فإننا نجد بأن السلبية واللامبالاة تطغى في حياتنا في ظل تمترسنا وراء “ما سيبي” وبها تتفشى مظاهر الفساد وتنمو الكثير من الظواهر الغريبة والدخيلة على مجتمعنا وأعرافنا. ومع هذا الجمود والتبلد وضيق الأفق تجد أن الكثيرين يحجمون عن إبداء النصح والمجاهرة بالرأي بهدف الإصلاح والتغيير وفي سرهم يقولون: “باب يجيء لك منه الريح سده واسترح”، ولهذا لا تتعجب يوماً إذا تحمست وقلت رأياً أو نبهت لقصور ما أو معضلة أو مشكلة ما وجوبهت بهجوم كاسح من أحد الأدعياء والأغبياء وقد يتطور الأمر بأن ينتفض عليك ويجردك من “يمنيتك” بمجرد قولك رأي أو تقديمك مشورة أو ملاحظة عامة.. حدث هذا بالفعل.. وسيحدث غداً وإلى ما شاء الله طالما نحن متمسكون وخانعون للسلبية والانغلاق وعدم قبولنا بالرأي والنصيحة والاستحسان لها!!. قيل لي إن الزميل يوسف باسنبل وهو أحد نشطاء الإعلام في مديرية دوعن كاد أن يدخل قبل أسابيع في إشكالية عويصة مع الأجهزة المحلية هناك, ليس لارتكابه جرماً ما أو اقترف عملاً مخلاً بالقيم والآداب, بل لأنه غلّب ضميره ونازعته غيرته على أبناء جلدته من الطلاب الجالسين لأداء الامتحانات هذا العام, فأراد أن ينبه ويلفت النظر عبر أثير الإذاعة المحلية في المكلا لظاهرة تفشي الغش في الامتحانات وتبيان انعكاسات مضارها على مستقبل أجيالنا والقائمة في مثل هذه المواقف تطول. ومع اعترافنا بأن ثقافة السلبية قد أصبحت هي السائدة وخاصة في السكوت عن الأخطاء وعدم التنبيه والإبلاغ عنها وتذكير الجهات المسئولة بها من أجل إصلاحها ومعالجتها, فإن الاستكانة لهذا السلوك خطأ فادح, وعلينا واجب جميعاً أن نتدارك أمرنا ونمضي لتغيير هذه السلبية بمزيد من الانفتاح وحسن الظن بالآخرين.