إذا كان هناك شيء اسمه التنويم المغناطيسي وهو فردي ؛ فإن هناك ظاهرة أخطر وأعم وهي التنويم الاجتماعي، فكلٌ منا ولد في بيئة خاضع لإيحاء لايكف عن البث في تشكيل القيم والعادات والميول والاهتمامات فيظن كل منا أن هذا هو أفضل مافي الوجود، ومن هنا فلايملك ملكة النقد الاجتماعي إلا أندر الناس بسبب أنهم خاضعون لهذه العملية من التنويم الاجتماعي، ويذكر المؤرخ البريطاني توينبي أن المؤرخين في العادة أميل الى تسجيل آراء الجماعات التي يعيشون في كنفها منهم الى انتقادها. والانتقاد مزعج منفر والثناء أحلى من الشهد. ولكن المشكلة أن المجتمع لايتقدم الا بالانتقاد كما أن النفس لاتفوز في يوم القيامة الا إذا كانت من صنف اللوَّامة كما أقسم الله على ذلك “لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة”، فهذه النفس التي اعتمدت آلية المراجعة الدؤوبة والمحاسبة المستمرة لما تفعل من تصرفات تنضج وتستحق أن تدخل جنة الخلد حسنت مستقرا ومقاما. وكما أن معظم الناس هم من صنف العوام الذين ينعقون بما ينعق الناس ولايملكون مقدرة المراجعة بسبب عدم تنمية هذه الآلية العقلية فإن هذا يترتب عليه ثلاثة أمور خطيرة : الأول - أن إمكانية التلاعب بالجماهير قابلة , فهي سهلة التحريض تمشي خلف كل مزمار مثل الغنم، وكما يقال (يجمعهم طبل ويفرقهم عصا) ومن هنا وصف الصحابة رضوان الله عليهم على نحو مختلف (أنهم يقلّون عند الطمع ويكثرون عند الفزع) وليس غريبا إن وصفهم القرآن أن الناس حينما جمعوا لهم لم يركبهم الرعب بل ازدادوا إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. وهي ملكة نفسية تربوية مدهشة.ويترتب على الأمر الأول إدراك خطر الإعلام أو مايسمى اليوم (الانفوميديا) أي تعانق المعلومات مع الإعلام. وهي مسؤولية خطيرة في تشكيل الرأي العام وتحريضهم والتلاعب في عقولهم . والأمر الثاني : أن ظاهرة العامية والقابلية للتحيز يمكن أن نراها عند حامل الشهادة العلمية الكبيرة بسبب أنه فني متخصص وعقله لايملك قدرة النقد والمراجعة. وهكذا فالثقافة والعلم يفترقان والطبيب الألماني لايختلف في المعلومات عن الطبيب الغاني ولكن فعالية الأول تنبع من المحيط الثقافي الذي ينشأ فيه وإن اجتمعا في تحصيل نفس المعلومات. والأمر الثالث : أن هذه القدرة من الخضوع للتنويم الاجتماعي يتحرر منها بعض الأفراد فكما كان تأثير التنويم المغناطيسي ليس واحداً طاماً للجميع بل يفترقون , فمنهم من يغرق فيه بسرعة ومنهم من يتأثر على نحو محدود ومنهم من لايقع ضمن حقله بالاستعداد الغريب فيتحرر من الضغط الساحق لقيم المجتمع وماتعارف عليه واعتاد، ولم يكن عبثاً أن وجه القرآن عباده الصالحين أن لايتبعوا ماوجدوا عليه الآباء بل يجب أن يحملوا قدرة النقد والمراجعة. وعند هذه النقطة تحصل مشكلة فمن يتجرأ فيدخل هذا الطريق يتعذب ولكن المجتمع لايخطو الى الأمام الا على يد هذا النفر من المجانين الشواذ. ولم يوصف النبي بالمجنون الا لأنه كان شاذا عن المجتمع.